بقلم البروفيسور ندى الملاح البستانيّتتهافت وكالات الأنباء على نقل الأزمات المفاجئة بتفاصيلها، فهي بحدّ ذاتها تشكّل مادّة دسمة ومتجدّدة تغذّي فضول المتابع، لكن عندما تتكرّر الأخبار عينها، تفقد عنصر المفاجأة، وبالتالي لا يتواتر على قراءتها أو مشاهدتها الكثيرون، فتقلّل القنوات أو المواقع الإخباريّة من كثافتها، إلى أن تفقد “نكهتها” … وللأسف، هذا ما يحصل مع أخبار الاقتحامات شبه اليوميّة للمصارف اللبنانيّة، فبعد أن فقدت وقعها المفاجئ، أصبحت كفقرة الأبراج اليوميّة، لا تقدّم ولا تؤخِّر.
بالتأكيد، لا يمكن تصوير المشهد على أنّه “شريعة الغاب”، فلا توازن بين الجهات المصرفيّة المدعومة بوجهٍ مباشر أو غير مباشر بترسانة حقوقيّة، وأمنيّة، وسياسيّة، والمواطن الأعزل، الفاقد لأمواله، وحقوقه، ومن يدعمه في صراعه من أجل البقاء. وبقولنا “مواطن”، نقصد غالبيّة المجتمع اللبنانيّ، فلم ترحم المصارف لا الفقير ولا الغنيّ، فقد خلت تعاميمها حتّى من الطائفيّة والمناطقيّة، فوحّدت لبنان بآلامه لا بآماله.
عاودت المصارف فتح أبوابها بعد”حردة” مؤقّتة، لكنّها باتت تحتمي بإجراءات بيروقراطيّة مقرِفة، جعلت من دخول المصرف أصعب من دخول القِلاع المحصّنة. يأتي هذا ضمن خطّة غير مباشرة لاخراج المصرف من حياة اللبنانيّ، يرافقها تقليص في حضورها في البقاع اللبنانيّة، وخصوصًا في الأرياف، إذ شهد عدد المصارف، والصرّافات الآليّة، انخفاضًا بحوالى ٢٥٪ منذ نهاية العام ٢٠١٩، بحجّة تخفيض النفقات التشغيليّة، والأمر انسحب على موظّفي القطاع المصرفيّ، مع انخفاض عددهم بنسبة مقاربة لعدد المصارف المُقفلة، في عمليّة إعادة هيكلة غير معلنة.
يحتار المراقب أمام ما يحصل من “همروجة” مصرفيّة-أمنيّة، في دفع المواطن اللبنانيّ إلى التصرّفات غير القانونيّة، لتبرير التدابير المصرفيّة في الحجز على الأموال، والتضييق على حركتها من دون مراعاة للإجراءات القانونيّة. هل ثمّة من هم فوق القانون؟ أم أن المخطّط أبعد من مجرّد فوضى؟
وفي الحديث عن حماية القانون، كيف يمكن حماية حقوق المواطن بعد أنّ أعلن البنك الدوليّ أنّ ثمّة عمليّة احتيال مستمرّة منذ ثلاثين عامًا، تهدف إلى مكافأة بعض المستثمرين من ودائع المواطنين أنفسهم. وفي حين ينادي صندوق النقد الدوليّ بضرورة حماية المودعين، وخصوصًا الصغار منهم، تبقى عمليّة استنزاف ما تبقى من حسابات اللبنانيّين نتيجة تفاوت التضييق على عمليّة السحب، ومهزلة أسعار الصرف المتعدّدة بين دولار ولولار… وليرة وبيرة، وغيرها…
في ظلّ التحصينات الجديدة الّتي أجرتها المصارف لتنظيم عمليّات السحب والمراجعة الّتي يقوم بها المواطن العاديّ، قد تكون أخبار الاقتحامات مجرّد قنبلة دخّانية تُعمي حقيقة أنّ البنوك باتت على شفير الإفلاس عند مواجهتها مجموعة العمل الماليّ الّتي تقيّم مدى التزام القطاع المصرفيّ اللبنانيّ للمعايير العالميّة في مكافحة تبييض الأموال، ودعم الإرهاب، وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل. علمًا أنّ لبنان قد أنشأ في السابق هيئة تحقيق خاصّة ومستقلّة لمكافحة تبييض الأموال لإبقاء عامل الثقة في القطاع المصرفيّ اللبنانيّ، لكن من يُحافظ على الثقة في ظلّ ما نشهده من هرجٍ ومرجٍ في كافّة أرجاء الحياة المصرفيّة؟
بعد مراوغات عديدة مع مجموعة العمل الماليّ بتأجيل عمليّة التقييم بسبب الظروف الاستثنائيّة الّتي مرّ بها لبنان، يضع اليوم القطاع المصرفيّ آمال اللبنانيّين “على كفّ عفريت”، إذ من الصعب أن تقدّم تقاريره ما ينزّهه من الشوائب، وتصنيف لبنان ضمن القائمة الرماديّة للدول غير المتعاونة في مكافحة الفساد، لتُضاف إلى قائمة “التعتير والشحار”: من تخلّف الحكومة عن سداد ديونها، وغيرها من تصرّفات همّشت لبنان تلقائيًّا في النظام المصرفيّ التجاريّ الدوليّ، من دون أن ننسى أنّه في حال ضعف الملاءة الماليّة، ستواجه المصارف اللبنانيّة جميعها خطر استبعادها من شبكة «سويفت» العالميّة للعمليّات الماليّة والمصرفيّة.
في نهاية المطاف، وبين كثرة الآلام المذكورة، تبقى بعض الآمال في أن البنوك المراسلة لن تتوقّف تلقائيًّا عن التعامل مع المصارف اللبنانيّة، فهي تأخذ في عين الاعتبار التصنيف السياديّ للدولة… لكن من يعلم، ففي لبنان تُقلب المعايير أحيانًا، فيُصبح السارق صاحب حقّ، وصاحب الحقّ يعامل معاملة السارق… ومصادر الأمل تصبح بواعث للألم. فهل تعود الصورة المشرقة للمصارف اللبنانيّة، وتكون مجدّدًا مصدر الأمل الاقتصاديّ القويّ؟