عن جدّ صار بدّا عصا

18 نوفمبر 2022
عن جدّ صار بدّا عصا


إستخدمت في الجلسة السادسة المخصّصة نظريًا لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية تعابير جديدة، قد تكون أقرب إلى الواقع من أي شيء آخر. وهذه التعابير تعبّر عن حال القرف، التي تنتاب المواطنين عندما يشاهدون كيف يتصرّف أولئك، الذين إنتخبوهم قبل نحو ستة أشهر ليمارسوا المهام، التي على أساسها تمّ إنتخابهم.

أولى هذه المهام إنتخاب رئيس للجمهورية، إذ من دون هذه العملية الدستورية لا ينتظم العمل المؤسساتي في البلد، ولا تستقيم الحياة السياسية كما يجب، بإعتبار أن رئيس الجمهورية هو، وفق الدستور، رمز وحدة لبنان. ومن دون هذه الصفة يصبح هذا الرئيس كالملكية في بريطانيا. 
أمّا في ما خصّ هذه التعابير، والتي قالها أكثر من نائب، فهي تعبّر خير تعبير عمّا تعانيه البلاد من تأزم سياسي وأخلاقي، قبل التحدّث عن الأزمات الإقتصادية والمالية والنقدية والإجتماعية والحياتية. 
قال أحد النواب: فالج لا تعالج. صار بدّا عصا. 
وقال آخر: دقّ الميّ بتبقى ميّ. 
ماذا تعني هذه التعابير؟ إنها تعني بكل بساطة أن “كلمة السرّ” الخارجية لم تأتِ بعد، أو بتعبير آخر أن الوحي لم يهبط بعد على نواب الأمّة، وأن هؤلاء النواب، الذين يمثلون اللبنانيين بمختلف أطيافهم الطائفية والسياسية والحزبية والمناطقية، مسيّرون وليسوا مخيّرين، وأن القرار ليس ملكهم وحدهم، أو أنهم لم يبلغوا بعد سن الرشد السياسي، وهم يحتاجون دائمًا إلى من يمسك أيديهم، ويدّلهم إلى الطريق تمامًا كما تمسك الأمّ أيدي أطفالها في الطرقات المزدحمة خوفًا من أن تدهسم سيارة يقودها سائق أرعن أو طائش. 
أمّا تعبير “صار بدّا عصا”، وقائلها هو النائب اللواء جميل السيد، الذي يعرف تمام المعرفة معنى هذا التعبير، الذي عاش لبنان في ظّله طوال حقبات طويلة في حياته السياسية منذ الإحتلال العثماني، مرورًا بالإنتداب الفرنسي وصولًا إلى الوصاية السورية، حيث كانت العصا هي التي تسيّر الأمور، وأحيانًا كثيرة كانت هذه العصا غليظة. ولم يكن يعترض سوى قلّة قليلة من الأحرار، الذين عُلّقت مشانقهم في ساحة البرج، وساروا بعدها في شوارع بيروت رافضين الإنتداب الفرنسي تحت شعار “لا للغرب ولا للشرق”، وأنتفضوا أخيرًا في وجه الوصاية السورية. 
ولكن هذه القلّة من اللبنانيين الأحرار، الذين نزلوا في 17 تشرين الأول إلى الشوارع والطرقات مطالبين بلقمة العيش الكريم، إنتخبوا نوابًا لم يستطيعوا حتى هذه اللحظة ترجمة غضب الشارع بعمل جماعي إنقاذي واعد، خاب أملها وسقطت أحلامها. 
“صار بدّا عصا” يعني أننا في حاجة دائمة إلى من “يسوسنا”. ويعني أيضًا أننا لم نتخطّ بعد سن المراهقة. ويعني أيضًا وأيضًا أننا لم نتعّلم شيئًا من تجارب التاريخ. ويكاد المرء يقول إن تضحيات الأباء والأجداد قد ذهبت سدًى.  
ما يدفع البعض إلى هذا النوع من التفكير المحبِط ما يشاهده كل خميس من تكرار لمسرحية فيها الكثير من الضحك الذي يبكي. فاللبنانيون يعيشون أبشع أنواع المآسي التي عرفتها البشرية قاطبة، وهم في غنىً عمّا أو عمّن يزيد إحباطهم إحباطًا. “فما فيهم مكفيهم”. 
وماذا بعد؟ 
ماذا ينتظر نواب الأمّة حتى ينتخبوا رئيسًا للجمهورية، الذي ستواجهه مشاكل جمّة ومستعصية لم يعرفها أي رئيس آخر، حتى الذين واجهتهم مآسي الحرب اللبنانية؟ 
من يراقب حركة بعض النواب هذه الأيام يدرك تمام الإدراك أنه “صار بدّا عصا”.