انها الذكرى الـ 79 لاستقلال لبنان عام 1943، لكنها تمر هذا العام حزينة، لا طعم لها ولا لون، حتى أن المراسم البروتوكولية والعروض العسكرية ألغيت في ظل الفراغ والشغور في المؤسسات، وما لها من انعكاسات وتداعيات على المواطنين الذين يعانون من أسوأ الأزمات التاريخية. والأنكى من كل ذلك، أن لا بصيص أمل يلوح في الأفق ليبشر بأن البلد متجه نحو الحلحلة لا بل على العكس، فإن من يراقب التطورات، ويسمع التصريحات والمواقف، ويشاهد جلسات انتخاب الرئيس الهزلية المتتالية، وتموضع النواب والسياسيين في متاريسهم، يتأكد أن الأمور نحو مزيد من التأزم .
البرنامج البروتوكولي أسقط من قاموس الجمهورية لهذا العام تماماً كما أسقطت كل المعاني والأبعاد الفعلية للاستقلال على مدى سنوات سابقة، واقتصر احياء الذكرى على بعض الاحتفالات الصغيرة والضيقة ووضع الأكاليل على أضرحة رجالات الاستقلال. والمعزوفة الخاصة برئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة كما نشيد التعظيم لرئيس الجمهورية والنشيد الوطني، سيحل محلها نشيد الموت على الوطن وأهله، واطفاء شعلة الحياة والسيادة والاستقلال الى حين عودة المسؤولين الى ضمائرهم.
ليست المرة الأولى التي تلغى فيها ذكرى الاستقلال بسبب الشغور، انما سبقتها مراحل مماثلة بين عهدي الرئيسين ميشال سليمان وميشال عون وبين عهدي الرئيسين إميل لحود وسليمان .أما في العام 2020 وفي الذكرى الـ77 للاستقلال فقد غاب الاحتفال المركزي نتيجة جائحة كورونا، وإثر انفجار المرفأ، والأمر نفسه انسحب على الذكرى 78 بحيث أقيم عرض عسكري رمزي في وزارة الدفاع. وفي سنة 2019، اتخذت ذكرى الاستقلال طابعاً خاصاً بعد ثورة 17 تشرين بحيث قابل الاحتفال الهزيل في وزارة الدفاع، عرض شعبي كبير في وسط بيروت شاركت فيه مختلف القطاعات.
على أي حال، مرّ على لبنان الكثير من الانتدابات والوصايات، وتأتي ذكرى الاستقلال الـ 79 من دون جيوش أجنبية على الأراضي اللبنانية ومن دون وصاية مباشرة من دولة ما، لكن هذه الوصاية، المتعددة الجهات، متجذرة في النفوس بحيث بات الاستتباع لدى بعض الجهات محل تباهٍ واعتزاز، وما يحصل في الانتخابات وتأليف الحكومات والاستحقاقات الدستورية وملء الشغور الرئاسي خير دليل على أن لبنان لم يستقل يوماً، ولم يعرف طعم الاستقلال لألف سبب وسبب. وهنا لا بد من التساؤل: لماذا لم يتمكن لبنان من تجسيد الاستقلال الحقيقي والفعلي طوال هذه السنوات؟ وفي أي عهد ظهرت بعض معالم الاستقلال؟ وهل يمكن وصف التدخلات الخارجية في مفاصل الحياة السياسية اليومية، بأنها انتداب مقنع أو وصاية مخفية؟
رأى النائب الياس حنكش في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن “المحاصصة وصراع الطوائف والمسؤولين الذين يتقاسمون مغانم السلطة، أوصلوا البلد الى هنا والى عدم تحقيق الاستقلال، كما أن اللبنانيين لم ينجحوا في تنظيم مؤتمر مصالحة ومصارحة بين بعضهم البعض بل بقيت الهواجس وأحقاد الحرب في النفوس. المسؤولون يمتهنون التعطيل، والدولة تُستباح بدستورها، وباستباحة الدستور وتخطي سقف القانون لا يمكن بناء دولة فعلية، وسيبقى لبنان أشبه بالبلد على الرغم من أنه يتمتع بغنى في طاقاته وشبابه ورسالته وبحوار الثقافات والحضارات والأديان. هذه المزايا يمكن أن تكون نموذجاً عالمياً لتركيبة لبنان، لكن لسوء الحظ لا نعرف نقاط قوتنا، ولا نستفيد من موقعنا ومن ثقافتنا وتاريخنا لأن كل واحد يتداور على السلطة بهدف الحصول على مغانم الدولة. الى اليوم لم نتمكن من انتاج رجال دولة بل رجال سياسة يريدون مراكمة المكتسبات وليس بناء بلد للأجيال المقبلة”.
واعتبر أن “عهد الرئيس فؤاد شهاب من العهود التي بنت أسس الدولة الحقيقية على الرغم من شوائب كل عهد، كما أن النموذج الآخر الذي خلق أملاً ببلد مستقل وقوي يتجسد بالرئيس بشير الجميل”، متمنياً “ألا تذهب التضحيات والتجارب والاستشهاد هدراً لأن الشهداء لم يستشهدوا كي نعيش هذا النوع وهذا المستوى من الحياة. واذا لم نسلك الطريق الصحيح لاعادة البلد الى السكة، نقول بأسف ان دماء الشهداء ذهبت هدراً”.
ووصف التدخلات الخارجية بأنها “انتداب مقنع”، لافتاً الى أن “لبنان صندوق بريد لكل الدول، وهذا ما يجب أن نعمل على الحد منه. لذلك، نحن حريصون على الحياد لابعاد البلد عن التجاذبات الدولية والصراعات الاقليمية”.
وقال النائب أيوب حميد: “منذ بداية نشأة لبنان الكبير، لم تكن هناك صيغة عملية تستطيع أن تؤمن الازدهار الحقيقي بدليل ما شهدناه من أحداث، ووضع لبنان في منطقة حساسة، بالاضافة الى التخبط والمناكفات والفساد وعدم اللجوء الى مؤسسات فعلية تشدد على الخطاب الوطني، اضافة الى أمر أساس وهو ما يسمى بحصار خارجي والاملاءات التي تفرض على لبنان الاتجاه بمناخات معينة، لا تخدم الوحدة الداخلية ولا الاستقلال الحقيقي. كل تلك العوامل السلبية أدت الى استقلال منقوص، وهذا محزن لأن كل انسان يريد وطناً يعيش فيه محترماً وبسيادة حقيقية”.
وأشار الى صعوبة “أن نجد مرحلة عرفت الاستقلال الحقيقي لأن لبنان كان دائماً محكوماً بعوامل اقليمية تحدد المسارات على الرغم من أن هناك فترات كان فيها استقرار أمني وبحبوحة، وأطلقت عليها مراحل ذهبية، لكنها كانت صورة براقة من الخارج”، مؤكداً أن “ليس هناك من بلد في العالم يخلو من التأثر بالجوار حتى الدول التي تدعي انها صاحبة سيادة وديموقراطية، نرى فيها وجوداً عسكرياً لدول أخرى، وليس هناك من بلد في العالم يستطيع أن يزعم ممارسة الحرية المطلقة. العالم محكوم بالتأثرات الخارجية، ولبنان ليس بعيداً عن هذا الواقع الذي يجب ألا نتنكر له. وهناك دائماً مسعى، ويجب أن يستمر للوصول الى أفضل صيغ يمكن أن تجنب التأثيرات الخارجية خدمة للمصلحة الوطنية”.
وأوضح النائب ملحم خلف “أننا لم نضع أولوية المصلحة العامة في أساس حياتنا. بدل أن تكون هناك علاقة مباشرة بين الدولة والمواطن، وضعنا وسيطاً بينهما هو الطائفة. هذا الارتباط يعوق هذا الوجدان الوطني المباشر. الاستقلال في النفوس والوجدان، ولا يترجم في يوم واحد. الاستقلال هو تأكيد وتقدير لكل من سبقنا ووضعنا على هذا المسار الاستقلالي الذي يجب أن نتمسك به من خلال خياراتنا وأفعالنا وأعمالنا وبتربيتنا ليكون بلدنا مشعاً ومستقلاً ليس بالكلام انما بالفعل. انه مسار تربوي وثقافي”.
وشدد على أن “الاستقلال لا يترجم بمرحلة أو بعهد انما بمدى عيشنا له من خلال ارتباطنا الوطني. الفكرة الأساسية التي يجسدها الاستقلال هي التعاضد الذي هو أساس المقاربات”، معتبراً أن “من المعيب علينا أن نتحدث عن تدخلات خارجية لأن ذلك يظهر وكأننا عاجزون”.
أما النائب السابق شامل روكز فأشار الى أن “الاستقلال يرمز الى العز والكرامة. الطبقة السياسية ليست على قدر المسؤولية للمحافظة على الاستقلال، وعلى كرامة الوطن. الكل يعمل لمصلحته الخاصة وكأننا نعيش في دويلات عدة. لذلك، المصالح الخاصة أوصلتنا الى الاستقلال المنقوص، لكن الشعب اللبناني يجب أن يتحمل مسؤوليته أيضاً لناحية ايصاله الطبقة الفاسدة الى السلطة، ويعيد انتخابها”، مذكراً بـ “أننا منذ الاستقلال الى اليوم، دفعنا الثمن غالياً في سبيل استمرار البلد. هذه الدماء والشهادة في سبيل الاستقلال أمانة في رقابنا، وعلينا الحفاظ عليها بكل ما أوتينا من قوة”.
ورأى أن “الشعب أيام الحرب كان يشعر بروح الاستقلال أكثر من اليوم حيث الانحطاط حالياً في الكرامة الوطنية، والشعب مقهور، ويُذل في حياته اليومية”، معتبراً أن “التدخلات الخارجية اليوم، وصاية واضحة بحيث هناك رهانات وارتهانات، وهذا أسوأ من الجيش المحتل على الأرض الذي يمكن محاربته ومواجهته وتحرير البلد منه، لكن الارتهانات للخارج، مرض يتم توارثه. لذلك، نستمر في الدوامة التي نعيش فيها”.