ليس مستغرباً ما سنقرأه، فمهنة الداية عادت إلى لبنان وبقوة، وهذه المرة من زاوية الإجهاض، فعلى وقع الأزمة الإقتصادية التي فتكت بلبنان، وجدت القابلات أو ما يُعرف بالعامية ب”الداية” بهذا الواقع فرصة لإعادة إنعاش هذه المهنة التي خفَّ وهجُها مع تطور المستشفيات، وسيطرتها على القطاع الصّحي.
ومع ارتفاع سعر صرف الدولار وما رافقه من انعدام القدرة على الدخول إلى المستشفيات، كونها باتت حكراً على الميسورين فقط، لم تجدْ النّساء مخرجاً للتخلص من الحمل إلا الإجهاض غير القانوني على يد “القابلة”، ما فتح المجال لهن من أن يستفدن من تراخي الرقابة، واستغلال الفرصة لاجراء عمليات الإجهاض “بالمخفي”.الواقع اللّبنانييعاقب القانون اللّبناني على عملية الإجهاض، كما يعاقب من يدعو للإجهاض، ونص قانون العقوبات على الحبس لكل من قام بعملية الترويج للاجهاض أو استعمال وسائل الإجهاض(٥٣٩ عقوبات)، ذلك طالما كان الإجهاض غير علاجي ، فيما يسمح القانون بالاجهاض في حال كان الحمل يشكل خطرًا على حياة الحامل، إلا أن عمل الداية تجاوز كافة الخطوط الحمراء، لتكون منازلهن مسرحاً لأبشع أنواع قتل الأرواح.
وبالعودة إلى الواقع اللّبناني فإن الأمر يسير عكس القانون تماماً، حيث تقوم النساء اللاتي تردن اجهاض الجنين بتلافي المستشفيات والإتجاه نحو “الداية” مبتعدة بالتّالي عن أي مُحاسبةٍ قانونية، أو أي اجراءاتٍ ملزمةٍ أخرى قد تتخذها المستشفيات نظراً لخطورة هذه العملية.يمكن القول إن عمل “الداية” أو القابلة القانونيّة عاد للإزدهار، حيث أن التّحايل وتجاوز القانون لم يكن الهدف الوحيد، بل إن عدم قدرة النّساء على دفع تكاليف المستشفى دفع بهن إلى اللّجوء إلى ما بات يُعرف الأن ،بظلّ هذه الأزمة، ب”جمهورية الدايات”. لتكون حاكمات هذه الجمهورية مُتأهبات لأجل التّمرّد على القانون، غير آبهات لآثار العملية التي قد تنتج عنها اضرار وخيمة على صحة الحامل ما قد يؤدي إلى وفاتها.ومن هنا يمكن القول إن عملية الوصول إلى “الداية” بات أمرا سهلا إذ أن عناوينهن هي سهلة التداول طالما أن الجهات المسؤولة لا تتشدد في ردع هذه الحالات.
ما يقارب ٥٪ من النّساء اللواتي يأخذن عمل الداية بمنحاه القانوني(القابلة القانونية) لديهن عيادات خاصة، وتوازياً، ولعدم ارتباطهن بأي مستشفى أو بأي مراكز رعاية، فإنّهن شرّعن أبواب عياداتهن .
وحسب الأرقام فإن منطقة البقاع تستحوذ على الرقم الأكبر من نسبة الإجهاض غير القانوني ، والذي يتم بطبيعة الحال عند “الداية”، حيث يعمد سكّان المخيمات إلى اللجوء إلى “الداية” لأجل التخلص من الجنين لاعتباره مصدر عبء جديد، وهذا التفلت داخل المخيمات دفع بالقابلات إلى فتح “بيزنس” جديد بين هذه الخيم، حيث أن المعلومات تشير إلى أن كلفة الإجهاض الواحدة تتراوح ما بين ٤٠٠-٦٠٠$ وهو رقم ليس بالسهل حالياً، إنّما يبقى أفضل بكثير من اللجوء إلى المستشفى والإصطدام بالإجراءات الصعبة.
ومؤخراً في زحلة استطاعت القوى الأمنية أن توقف إحدى هذه المتمردات على القانون حيث أن إحدى النازحات قرّرت أن تدخل بهذا “البيزنس” لتحول خيمتها إلى مقصد النّساء اللّبنانيات والسّوريات لإجراء عمليات الإجهاض، وتمكنت القوى الأمنية من إلقاء القبض عليها داخل مخيّم للنازحين السّوريين بسبب ممارستها عمل الداية وقيامها بعملية الإجهاض بأدوات بدائية، في مقابل مبالغ ضئيلة، من دون الحصول على إذن مزاولة المهنة.
الأمر لا يختلف داخل عيادات أخرى بعيدة عن المخيمات، إذ أن العديد من النّساء اللّبنانيات يروين المصاعب الجمّة التي يواجهونها جرّاء لجوئهن إلى عيادات غير آمنة، وذلك لناحية عدم اعتماد أدنى المعايير المطلوبة.ومن هنا يمكن القول بأن سوق الداية أو القابلة بات مشرّعا تماماً على مصراعيه أمام أي متحايلةٍ على القانون، وهذا لا يخفي بطبيعة الحال دور الأطباء الذين يتواطؤون مع هذه القابلات لأجل الإستفادة من هكذا عمليات، إذ أن القوى الأمنية توازياً استطاعت أن توقف طبيباً قام بعمليات اجهاض غير قانونية بعدد خيالي ما استدعى إيقافه عن العمل..فهل بتنا حقاً نعيش مع جمهورية “الداية” التي باتت مشرعةً دون أدنى رقابة، أو أن لزوم تشريع الإجهاض ووضع معيار قانوني جديد متطور بات امرا ضروريا؟