في التقليد الكنسي نتذكّر مرّة في السنة تلك القديسة البطلة، التي رفضت أن تتنكر لمن ضحى بنفسه على الصليب من أجل خلاص العالم. هربت من بيت أهلها وتنكرّت بثياب الفلاحين، ولكن ذلك لم يحل دون العثور عليها وتعذيبها حتى استشهدت بقطع رأسها علي يد أبيها الوثني.
أمّا في التقليد اللبناني، وبالتحديد “التقليد السياسي”، فإننا نعيش كل يوم “عيد البربارة”. ومع إطلالة كل يوم نلبس وجهًا مغايرًا لوجه الأمس. وهكذا دواليك حتى انتهاء العدّ في روزنامة الأيام المتشابهة، من حيث الرتابة، ومن حيث تبديل المواقف وكأنها ثياب يجب غسلها بعد كل “لبسة”، أو من حيث مراكمة الأزمات التي تتوالد وفقًا للوجوه المتبدّلة والمتغيّرة، التي تشبه إلى حدّ كبير تلك العلامات، التي توضع فوق أسطح المنازل لمعرفة اتجاهات الريح.
فالوجه الذي نلبسه اليوم قد يكون مناسبًا لهذا الظرف ومتغيراته، وهو لن يكون بالتأكيد مناسبًا مع غيره من الظروف، إذ أن لكل مقام وجهًا، ولكل مناسبة الزي التنكرّي الخاص بها.
أمّا الحديث عن هذا الذين يكون “بوجّين ولسانين” فيطول، إذ غالبًا ما نرى بعض سياسيينا يمشون مع أم العريس ومع أم العروس في وقت واحد، وهم قادرون على تبديل مواقفهم تمامًا كالحرباء، التي تبدّل ألونها تناسبًا مع اللون الذي يكون أمامها.
هؤلاء، وهم كثر في مجتمعنا اللبناني، القائم على أمثال متخصّصة بفن الكذب، كمثل “اليد يلي ما فيك عليها بوسا وادعي عليها بالكسر”، و”مين ما أخد أمّي بيصير عمّي”، أو عملًا بـ”البدعة” التي طلع بها أحدهم في الانتخابات النيابية الأخيرة عندما دعا الناخبين إلى أن يقبضوا من المرشحين الميسورين وينتخبوا غيرهم ممن هم مقتنعون بهم.
إنها “ثقافة” الغش والتزوير و”الضحك على الذقون”، وسياسة “تبويس اللحى”. هي “ثقافة” أصبحت جزءًا لا يتجزأ من يومياتنا اللبنانية، ومن عاداتنا السيئة، التي تطارد اللبنانيين حيثما حلّوا، حتى أن بعض الدول التي لم تعرف الكذب في تعاطيها مع مواطنيها اضطرّت لتغيير بعض السلوكيات تحسبًا لأي عملية احتيالية قد يقدم عليها اللبنانيون المهاجرون إليها. والأمثلة على ذلك كثيرة.
كم من مرّة نسمع كلمة “حبيب قلبي” نردّدها مع بداية كل حديث ونهايته. وكمّ من مرّة نسمع شخصً يقول عكس ما ليس مقتنعًا به. فلو أتيح لنا أن نسمع صدى ما يفكرّ به كثيرون بعد كل كلمة “حبيب قلبي” لتفاجأنا عن هذه الكمية من الرياء والخبث وقول الشيء وعكسه في آن واحد.
وقد يصحّ قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب “لو اطلع الناس على ما في قلوب بعضهم البعض لما تصافحوا الا بالسيوف” على الكثير من أهل السياسة، الذين يضمرون عكس ما يعلنون، ويعلنون عكس ما يضمرون. وهم بذلك واصلون إلى إفراغ البلاد من كل مؤسساتها ومن مضامينها، لأن الفراغ الحاصل في سدّة الرئاسة هو تفريغ لمؤسسات الدولة من أبسط مقّومات وجودها.
ما يفعله أهل السياسة، أو “أهل البربارة اللبنانية”، بناسهم وناخبيهم لا يخطر على بال أحد. ألا يكفي هؤلاء ما يعانونه كل يوم بعدما سُرق منهم جنى عمرهم، ألا يكفيهم المتاجرة بشعورهم تحت مسمّيات شتى، وآخرها “الميثاقية”، ألا يكفيهم ذلًّا أمام المستشفيات، ألا يكفيهم أنهم يعيشون “كذبة كبيرة” اسمها “الدفاع عن حقوقهم”.
ألا اخلعوا وجوهكم المزيفة، ولو لمرة واحدة، أقّله عندما يلبس أطفالنا “وجوه البربارة”، حتى يكتشفوكم الناس على حقيقتكم.