لم تكن جلسة مجلس الوزراء، التي كانت استثنائية ومخصّصة لمواضيع حياتية طارئة وملحّة وأكثر من ضرورية، تلك القشّة التي قصمت ظهر “بعير العلاقات المتأرجحة بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” منذ توقيع “تفاهم مار مخايل” حتى اليوم، لأن رئيس “التيار” السيد جبران باسيل لم يترك، في مؤتمره الصحافي الأخير، للصلح مطرحًا، بل نسف كل الجسور، التي كانت لا تزال قائمة بين “حارة حريك” و”ميرنا الشالوحي”، على رغم تصدّعها وتعرّضها لأكثر من هزّة من قبل “العونيين”، الذين يعتبرون أن ما جرى يوم الأثنين في السراي الحكومي ليس حدثًا عابرًا في تاريخ العلاقات الثنائية بين مكونين لهما مكانتهما الشعبية في بيئتيهما. فالأمر، كما يُقال، ليس “رمانة” بل قلوب مليانة.
في المقلب الآخر من هذه المشهدية، وعلى رغم حرص “حزب الله” على ألا يصدر أي ردّة فعل غير مدروسة من نوابه أو قيادييه، تفسير من نوع آخر للموقف المستجدّ للسيد باسيل. والذين يقفون وراء هذا التفسير لم يقتنعوا بأن ما أقدم عليه “رجل المغامرات” ليس وليدة قيام “الحزب” بتأمين الغطاء لمشروعية جلسة مجلس الوزراء، والتي كان الهدف منها معالجة أمور الناس الحياتية والصحّية، بل هو أبعد من ذلك بكثير على أغلب الظن.
وفي رأي هؤلاء، فإن “حزب الله” لا يزال ينتظر تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، خصوصًا أنه سبق لباسيل ولغيره من “التيار العوني” أن اتخذ مواقف تصعيدية ضده، ولكن الأمور كانت تنتهي بمجرد اتصال، وكان “الحزب” “يكبّر عقله” في كل مرّة، ويلجأ إلى الحكمة والروية في معالجة انفعالات جبران، التي اعتاد عليها. ولكن هذه المرّة يبدو أن الأمور وصلت إلى حدود عدم الرجوع إلى الوراء، لأن “حزب الله” بات يملك الكثير من المعطيات والوقائع الحسيّة، والتي تؤكد أن باسيل كان يفتشّ عن أي ذريعة، حتى ولو كانت واهية، للخروج من تفاهم لم يؤمّن له، في تقديره، سوى تمهيد الطريق لانتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية، مكتفيًا بهذا القدر من الدعم، تاركًا العهد “يخبّط” وحده على كل الجبهات، وأهمها “جبهة عين التينة”.
ولأن باسيل “شاطر” في تحيّن الفرص فرأى في خطوة انعقاد جلسة اعتبرها غير دستورية وغير ميثاقية وتقتنص صلاحيات رئيس الجمهورية فرصة مؤاتية للانقضاض على “تفاهم مار مخايل”، مع كل “التطريزات” التي حاكها لخروج “مشرّف” من التزامات تفاهم لم يستطع أن يؤّمن له، أقّله، فرص الوصول إلى بعبدا.
وما يملكه الحزب من معلومات أولية ترجّح التزام جبران باسيل أمام الأميركيين عبر الوسطاء القطريين بفك تحالفه مع “حزب الله” بشرط اسقاط العقوبات الأميركية عنه كخطوة تمهيدية لتعبيد طريقه الرئاسي.
فإذا كانت هذه المعطيات مثبتة بالوجه الشرعي، وهي لا تزال تخضع حتى الآن لمزيد من التدقيق والتمحيص، فإن شعرة معاوية ستقطع نهائيًا بين حليفي الأمس، لتبدأ معها مرحلة جديدة من شدّ الحبال الرئاسية مع إمكانية إقدام باسيل على نقل البارودة من كتف إلى آخر، بحجة أن الغاية تبرّر الوسيلة. ولا تستبعد مصادر سياسية مراقبة وخبيرة في تفسير “المزاج الباسيلي” أن ينتقل باسيل من ضّفة إلى أخرى بقفزة واحدة، حتى من دون مقدّمات أو تحمية، خصوصًا إذا تيقّن أن في الضفة الأخرى من هو على استعداد لإبرام صفقة رئاسية جدية قد تكون مغايرة عن “اتفاق معراب”، على رغم تأكيد مصادر “القوات اللبنانية” أن العاقل والحكيم لا يلدغ من الجحر مرّتين، وأن أي اتفاق مع باسيل لا يكون سوى بشروط صارمة هذه المرّة، وبعد التأكد من فكّ تحالفه نهائيًا مع “حزب الله”. هذا الكلام وما قبله وما بعده يبقى ضمن دائرة التحليل والتفسير، على أن تكشف الأيام المقبلة حقيقة الأمور. إلاّ أن بيان “حزب الله” جاء موضوعيًا، وفيه الكثير من الحكمة. وهذا ما سنتناوله في مقالة الغد.