كتبت “الأخبار”: لا تشبه مراكز غسيل الكلى غيرها من الطبقات في المستشفى، فهنا لا أحاديث جانبية بين المرضى الموصولين إلى ماكينات الغسيل. لا تسمع سوى «طرطقة» الماكينات ووقع أقدام الممرضين والممرضات بينها يرقبون الوقت. أما المرضى، فعيونهم متعبة، ليس من المرض وحده وإنما من النظر إلى الشاشات، وهم يحسبون ما تبقى من الوقت للانتهاء من الجلسات. وهو وقت لا يقلّ في الغالب عن 3 أو 4 ساعات تتكرّر «يوم إيه، يوم لأ»، تقول إحدى الممرضات.
وإلى انقطاع الأدوية، يعيش مرضى غسيل الكلى خوفاً يومياً من تأجيل جلسات الغسيل نتيجة الأزمة المستجدة المتعلقة بانقطاع بعض معدات ماكينات الغسيل. وبسبب ذلك، لم تعد مواعيد هؤلاء تحدّد تلقائياً، إذ بات المريض ينتظر اتصالاً من المستشفى لتحديد ما إذا كان هناك جلسة غسيل في الغد أو لا، وفي بعض الأحيان يأتي الاتصال في اليوم نفسه للجلسة… إلى أن أصبحت علاجاتهم مرهونة باتصالٍ قد يعني غيابه «موت المريض»، يقول حمادة. بالنسبة إلى الأخير، بات هذا الخيار ممكناً و«واصلين له» في أقرب وقتٍ ممكن.خرجت أزمة مرضى الكلى من إطار فقدان الأدوية. لم يعد هذا السبب الوحيد لتدهور أحوال المرضى، مع انضمام أزمة المستلزمات والمعدات الطبية إلى قائمة الأسباب التي تحول دون استكمال معظم المرضى لعلاجاتهم المطلوبة في المستشفى.
اليوم، ثمة سببان أساسيان يقودان المرضى نحو انهيار حتمي، أوّلهما آلية الدعم التي يفرضها مصرف لبنان، وثانيهما التحديث الذي لحق بماكينات غسيل الكلى في معظم المستشفيات، التي أصبحت معداتها محدودة بأنواعٍ معينة. والمشكلة أن هذه المعدات توفرها شركة واحدة لمعظم المراكز، أي أن أيّ تأخير في شحنة تلك الشركة يعني إرباكاً في الجلسات وفي بعض الأحيان توقفها، وهو ما حدث أخيراً في مستشفيَي الزهراء والمقاصد اللذين واجها أزمة بسبب تأخر وصول الأنابيب الخاصة بالماكينات الموجودة بالمستشفى (bloodline)، ما خلّف حالة من الذعر حُلّت مؤقتاً باستعارة الأنابيب من مستشفيات أخرى، وفي تحويل بعض المرضى إلى مراكز أخرى.
تعود الجذور الأساسية للأزمة إلى آلية دعم المستلزمات التي يفرضها مصرف لبنان، بحيث يتأخر البت بالمعاملات. وبسبب هذا الأمر وتراكم ديون الشركات والوكلاء في ذمة المصرف، يمتنع هؤلاء في الفترة الأخيرة عن تأمين المعدات بالوتيرة التي كانت سائدة والتوزيع على المستشفيات بـ«الحبّة». وهو ما تطبّقه أخيراً شركة «فريسينيوس»، الوكيل الحصري للمعدات في 60% من مراكز غسيل الكلى.
لكلّ هذه الأسباب، يتوقع رئيس دائرة الطب الداخلي والكلى في الجامعة اللبنانية ومستشفى الزهراء الجامعي الدكتور مجدي حمادة أن تزداد حدة الأزمة في كانون الثاني وشباط المقبلَيْن، إلى الحدّ الذي «يمكن أن نفقد فيها الكثيرين من مرضى غسيل الكلى ومن الأطباء أيضاً وقد نشهد تسكير أقسام الغسيل في المستشفيات». ويردّ حمادة هذا السيناريو الكارثي إلى «أننا سنكون قادرين على الحصول على المستلزمات والمعدات حتى نهاية العام الجاري، وإن بالقطارة، أما بعد ذلك فنحن مقبلون على أزمة كبيرة خصوصاً أن الشركات التي لا تزال تؤمن المعدات لن تستمر في تحمّل الخسائر وهي تبحث للخروج من هنا». أضف إلى أنه في تلك الفترة، تنتهي مفاعيل المرسوم الوزاري الذي يرصد بموجبه مبلغ الـ35 مليون دولار لتأمين الأدوية والمستلزمات، ودون هذه النهاية معركة جديدة قد لا تكون نتيجتها محسومة.تتجلّى ثانية أزمات مرضى الكلى في العلاقة المثلّثة ما بين الصناديق الضامنة والمستشفيات والأطباء. فحتى اللحظة الراهنة، لا تزال جلسات غسيل الكلى مدعومة، وتحدّد الصناديق الضامنة كلفة تغطيتها لها وبدلات أتعاب الأطباء عن كلّ جلسة. في ما يتعلق بالكلفة التي تدفعها الصناديق الضامنة، فهي ليست موحّدة، فكل صندوق يرصد «كلفتها الخاصة»، ونذكر مثلاً أن وزارة الصحة العامة رفعت في الآونة الأخيرة كلفة الجلسة إلى مليون ونصف مليون ليرة، بعدما كانت الوزارة قد حدّدتها بـ500 ألف ليرة العام الماضي، و200 ألف ليرة قبل اندلاع الأزمة. أما بدلات أتعاب الأطباء، فقد رفعتها الوزارة من 37 ألفاً وخمسمئة ليرة إلى 75 ألفاً ثم إلى 225 ألف ليرة. غير أن مشكلة هذه الأكلاف أنها لا تترافق مع ما تشهده الأزمة، ودائماً «الدولار يسبق الكلّ»، يتابع حمادة.
وبسبب هذا الأمر، تتأرجح العلاقة بين المستشفيات والصناديق الضامنة، وزارة الصحة تحديداً، ما بين مدّ وجزر، خصوصاً أن المستحقات تُدفع سنوياً، فيما كلفة الجلسات من معدات وأدوية تدفعها المستشفيات شهرياً. وهو ما دفع نقابة أصحاب المستشفيات إلى مطالبة الوزارة بإعادة الفوترة على أساس شهري، كما الصناديق الأخرى لإعادة النظر بجدولة مستحقاتها، و«إلا ستضطر إلى تدفيع المرضى».أما الأطباء، فشكواهم لا تتأتّى فقط من تأخير تسديد بدلاتهم سنة كاملة أو كلّ ستة أشهر، وإنما من وضعهم تحت رحمة المصارف، إذ توضع الأموال في حسابات مصرفية تخضع لأهواء أصحاب المصارف. ويذكر الدكتور سعد أبو همين، طبيب الكلى في مستشفى بيروت العام وعضو مجلس نقابة الأطباء أن «ما نتقاضاه عن عامٍ كامل قد يستغرق سحبه من المصرف عاماً ونصف عام»! وفي ظروف اقتصادية مماثلة، يخوض الأطباء معركة حياة يومية، بحسب أبو همين، «لأن عملهم محصور فقط في المراكز، فهم لا يملكون عيادات قد تسندهم في معيشتهم، ويتّكلون فقط على ما تعطيهم إياه وزارة الصحة العامة والصناديق الضامنة عن المرضى». ومع ذلك، لا يمكنهم اتخاذ إجراءات متطرّفة كإعلان الإضراب «لأن أحداً لا يستطيع تحميل ضميره وزر موت مريض»، يقول حمادة. وفي هذا السياق، طالب الأطباء بدفع المستحقات شهرياً، أو تسديدها على أساس سعر صرف منصة صيرفة أو فريش، إلا أن أياً من هذه الاقتراحات لم يأخذ طريقه نحو التنفيذ. وفي الآونة الأخيرة، طالب هؤلاء برفع بدل الأتعاب من 5 إلى 10، إلا أن الاقتراح رُفض، بحسب أبو همين.تهدّد الأزمة بفقدان كثيرين من مرضى غسيل الكلى وبهجرة المزيد من الأطباء
لكلّ هذه الأسباب، فقد القطاع الكثير من الأطباء، إذ يستمرّ اليوم بـ70 طبيباً من أصل 180، هاجر معظمهم بحثاً عن فرص عملٍ في مستشفيات الخارج. ومن بقي هنا، فهو من لم يستطع إيجاد فرصته، أو من كبر على تأمين مستقبله خارجاً. أما الحديث عن ارتباط من بقي بوطنه برغم الأزمة المالية، فقد بات ضرباً من الخيال «فلا أحد بعد قادر على التضحية أكثر»، يقول أبو همين، لسببٍ واحد أن «الأطباء فئة كغيرهم من اللبنانيين يبحثون هم أيضاً عن لقمة عيش، فهم مواطنون ولديهم أولاد في المدارس والجامعات ومتطلبات». ولذلك، فإن العدد مرشّح للازدياد مع طول الأزمة، إذ يتوقع حمادة أن يستمرّ الانخفاض حتى تصل الأعداد إلى النصف وعندها لا أحد قد يتحمل العقبى، إذ إن المستشفيات ستتخذ خيارات تتجلّى بإقفال أقسام غسيل الكلى… وهي ليست ممتنّة أصلاً لتحمّل الخسائر اليوم. وفي هذا السياق، بدأت الإقفالات في المستشفيات، وإن بشكلٍ خجول، ومنها إقفال 4 أقسام حتى اللحظة.
كانت كلفة جلسة غسيل الكلى تبلغ قبل الأزمة 200 ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل 110 دولارات أميركية، مدعومة بالكامل، بمعدّل يُقدّر بـ250 مليون دولار أميركي سنوياً. أما اليوم، فتخضع الكلفة لزيادات غير محسوبة وغير ثابتة، كما حصل قبل أشهر مع قرار رفع الدعم عن بعض الأدوية التي تستخدمها المستشفيات. مع ذلك، لا تزال أكلاف الجلسات تفوتر على أساس أنها مدعومة بالكامل. لكن، المفارقة هي في الطرق الملتوية التي يسلكها الدعم الموجّه إلى الشركات، والتي من المؤكد أنها راكمت الكثير من الأرباح على حساب مرضى الكلى وغيرهم، بدل دعم المستهدفين مباشرة. ولذلك، تأتي الدعوة اليوم لإعادة مسار الدعم إلى طبيعته.
وفي هذا السياق، يقترح أبو همين «دعم مرضى الكلى مباشرة، إما من خلال تسديد أكلاف علاجهم مباشرة إلى المستشفيات أو أن يدفع المريض الكلفة ويحصّلها في ما بعد بطريقة واضحة من الصندوق الضامن الذي يخضع له». ما دون هذه الآلية، ستبقى الأزمة مفتوحة، خصوصاً أن قنوات الدعم الحالية لا ثابتة ولا مستمرة. أما الخيار الأكثر تطرّفاً فهو «أن يأتي الدعم من الخارج»، وإلا فمن المستحيل «علاج السرطان بحبّة بانادول»، يختم حمادة.