منذ أنّ بدأت التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، لم تُوفّر التدخّلات السياسيّة لا قاضيا ولا أهالي الشهداء، وعادت المطالبات في الأيّام القليلة الماضيّة، بعد ما جرى مع وليام نون وبيتر بو صعب وبقيّة الذين استُدعيوا إلى التحقيق، بنقل القضيّة إلى الجّهات الدوليّة، لما هناك من علامات إستفهام حول إستقلاليّة القضاء والقضاة على حدٍّ سواء. فالموضوع أصبح بمثابة شدّ حبالٍ بين من يُريد عزل المحقق العدليّ القاضي طارق البيطار عبر تعيين قاضٍ رديفٍ، وبين من يتمسّك به للتوصّل للحقيقة، وأيضاً، هناك دعوات لتحييده عن الملف، بسبب اتّهامه بتصويب التحقيق ضدّ فريقٍ سياسيٍّ في البلاد.
وأمام هذا الواقع القضائيّ المتأزّم، تبقى الحقيقة هي الضحيّة جراء الهروب من العدالة، إضافة إلى دمّ الضحايا والجرحى الذين دفعوا ثمن إستهتار من ترك نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12. من هنا، أعلن البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أنّه كان من أوائل المطالبين بإجراء تحقيقٍ دوليٍّ بالحادثة، كما أنّ عضو تكتّل “الجمهوريّة القويّة” النائب جورج عقيص أشار يوم الإثنين الماضيّ، من أمام مركز أمن الدولة في الرملة البيضاء الى أنّ وفداً من نواب “القوّات” زار السفارة الأستراليّة وطرح فكرة لجنة تقصّي الحقائق الدوليّة.
في الإطار عينه، يتوقّف مراقبون عند نقطة أساسيّة تناولها الراعي عند تذكيره بالتحقيق الدوليّ، عندما قال “لا نفهم الصدفة التي شاءت أنّ تتوقّف كلّ الأقمار الصناعيّة في تلك اللحظة في 4 آب”، في دلالة أيضاً إلى أنّ ليس هناك من ثقة في الخارج، فإذا تمّ توقيف الأقمار الصناعيّة، فكيف سيتمّ التحقيق بالملف، وعلى أيّ أساس وعلى أيّ دلائل سيرتكز التحقيق؟ ويُضيف المراقبون أنّ الصور ممكن أنّ تكشف الكثير، وخصوصاً وأنّ بعض الجّهات المحليّة لديها شكوكٌ من أنّ الإنفجار ممكن أنّ يكون ناجماً عن قصفٍ.
كذلك، هناك أفرقاء في الداخل لم يكونوا أساساً متحمّسين للمحكمة الدوليّة في قضيّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ونتائجها لم تكن على قدر طموح اللبنانيين، إضافة إلى أنّ التحقيق الدوليّ يحتاج لتمويلٍ كبيرٍ، ولبنان يُعاني من أزمة إقتصاديّة خانقة. وبالعودة إلى العام 2005، حتّى صدور القرار الظنيّ، لم يعترف “حزب الله” بأحكام المحكمة، وقد عارض منذ اليوم الأوّل من إنفجار المرفأ التحقيقات الخارجيّة، معتبراً إيّاها بالمتحيّزة، وتهدف إلى حرف الحقيقة وزيادة التشنّج السياسيّ والطائفيّ بين اللبنانيين.
وفي حين يرى البعض أنّ التحقيق الدوليّ مضيعة للوقت ويقوم على إستهداف فئة لبنانيّة، يعتبر البعض الآخر أنّ لا سبيل للوصول إلى العدالة سوى بنقل الملف إلى الخارج، إنطلاقاً من أنّ التحقيقات معطّلة منذ فترة طويلة، والقاضي البيطار مكبّل بسبب طلبات الردّ التي تُقدّم ضدّه، كذلك، هناك مشكلة سياسيّة تقف عائقاً أمام تعيين القضاة الجدّد للنظر بهذه الشكاوى. وفي السيّاق عينه، يبدو أنّ الأيّام المقبلة ستشهد تحريك أفرقاء، وخصوصاً من ناحيّة “المعارضة” لموضوع التحقيق الدوليّ، فعلى الأرض، كان لافتاً حضور نواب “الكتائب” و”القوّات” و”المجتمع المدنيّ” إلى جانب أهالي شهداء المرفأ. وتجدر الإشارة إلى أنّ رئيس الحزب “التقدميّ الإشتراكيّ” وليد جنبلاط كان أيضاً من الذين طالبوا بتدويل الملف.
ويُذكر مراقبون أنّه عندما توقّفت الحكومة عن الإنعقاد، كان التجاذب السياسيّ عميقا بين “التيّار” و”الثنائيّ الشيعيّ”، وقد وصل الأمر بوزراء “الحزب” و”أمل” الى حد اتهام النائب جبران باسيل بالوقوف خلف القاضي البيطار. أمّا حاليّاً، فقد أصبح رئيس “الوطنيّ الحرّ” مع تعيين قاضٍ رديفٍ لإطلاق سراح الموقوفين، وأبرزهم مدير عامّ الجمارك بدري ضاهر المقرّب جدّاً من فريق “العهد” السابق.
ويُتابع المراقبون أنّ الإنقسام بين مؤيّدٍ ومعارضٍ للبيطار أوصل البلاد إلى إشتباكات مسلّحة في الطيونة والشيّاح وعين الرمانة. ويتخوّف المراقبون من أنّ يُجرّ الشارع مرّة أخرى إلى إقتتالٍ مسلّحٍ إذا أصبحت القضيّة بعهدة القضاء الدوليّ. ويُشيرون إلى أنّه بينما أوقفت السياسة التحقيقات، فمن شأن التحقيق الدوليّ التحرّر من القيود الداخليّة، وبمجردّ التصويب على جهّة سياسيّة معيّنة وتحميلها مسؤوليّة الإنفجار، فمن شأن هذا الأمر أنّ يضع أهالي الشهداء ومناصري الأحزاب المعارضة، المسيحيّة بشكل خاصّ، بمواجهة مباشرة مع الذين سيتمّ إتّهامهم. ويُضيف المراقبون أنّ القرارات الدوليّة لن تلقى ترحيباً من جهّة فريق “الممانعة” الذي سبق ولم يعترف بما توصّلت إليه محكمة العدل الدوليّة في لاهاي في قضيّة الرئيس رفيق الحريري.
وبينما يتطلّع اللبنانيّون إلى معرفة الحقيقة ومحاسبة ومعاقبة من تسبّب بأكبر إنفجار في تاريخ لبنان، لا يبدو أنّ التحقيق الداخليّ سيأتي بنتيجة من دون تسويّة سياسيّة على حساب القاضي البيطار والعدالة. أمّا لجنة تقصّي الحقائق الدوليّة، فسيُكتب لها مصير محكمة العدل الدوليّة عينه، فمن يُطالب بالعدالة الخارجيّة سيصطدم بنفوذ سياسيّ سيمنع تسليم من سيتمّ إتّهامه، وستبقى منقوصة وغير معترف بها من شريحة كبيرة من الشعب اللبنانيّ.