بعد عام وشهرين على إقصائه عن متابعة ملف إنفجار مرفأ بيروت، عاد المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار ليستأنف عمله، بصورة مفاجئة في شكلها وتوقيتها وحيثياتها “السيو- قضائية”.
فالقاضي البيطار كان قد توقّف عن عمله في كانون الأول 2021، نتيجة طلبات كفّ اليد التي تقدّم بها وزراء ونواب، حاليون وسابقون، ممن ادّعى عليهم بإنفجار المرفأ، ورفضوا المثول أمامه، بحيث واجه حينها ضغوطاً سياسية كبرى، كان أبرزها من “حزب الله”، إذ قيل وقتها، إنّ أحد كبار مسؤوليه وفيق صفا، زار قصر العدل في بيروت، مهدداً بـ”قبع” المحقق العدلي إذا استمرّ في تحقيقاته.
استند البيطار في خطوته هذه، على الرغم من عشرات الدعاوى التي طالبت بعزله وعلّقت تحقيقاته، إلى اجتهاد قانوني، اعتبر “أنّ المجلس العدلي هيئة مستقلة موازية للهيئة العامة لمحكمة التمييز، وأنّ أيّ قرار ينصّ على تنحية المحقق العدل هو إلغاء لموقع تمّ إنشاؤه بموجب مرسوم وزاري، بحيث لا يحتاج المحقق العدلي إلى إذن لملاحقة المدعى عليهم، كونه أساساً مفوضاً للقيام بهذه المهمة”.
وحدّد البيطار، اليوم الثلاثاء، مواعيد لاستجواب 13 شخصاً مدّعى عليهم، في الفترة الممتدة بين 6 شباط و22 منه، في إطار دعاوى حق عام بجرائم القتل والإيذاء والإحراق والتخريب معطوفة جميعها على القصد الاحتمالي، من دون تفاصيل محدّدة حول المآخذ على كلّ من المدعى عليهم.
وجاء تحديد مواعيد الاستجواب غداة ادعائه على 8 أشخاص، بينهم النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات و3 قضاة آخرين، في إجراء غير مسبوق في تاريخ لبنان.
ولعلّ الحدث الأبرز والمدوي في قرار العودة للمحقق العدلي، ادعاؤه على مجموعة من الشخصيات السياسية والأمنية والقضائية للتحقيق معها كمدّعى عليهم. ومن بين الأشخاص الذين ادعى عليهم، المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، الذي تربطه علاقة جيدة بالقوى السياسية المحلية وبالدول العربية والغربية، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا المقرب من الرئيس السابق ميشال عون.
يذكر أن البيطار قد ادعى في صيف 2021 على رئيس الحكومة السابق حسان دياب وطلب رفع الحصانة عن نواب آنذاك، بينهم وزيرا الأشغال السابقان يوسف فنيانوس وغازي زعيتر، ووزير المالية السابق علي حسن خليل، كما طلب الإذن لاستجواب كلّ من إبراهيم وصليبا.
وامتنع المجلس النيابي عن رفع الحصانة عن نواب شغلوا مناصب وزارية، مما حال دون استجوابهم. وامتنع مسؤولون عن منح البيطار الإذن لاستجواب مسؤولين أمنيين تحت سلطتهم، كما امتنعت قوى الأمن عن تنفيذ مذكرات توقيف أصدرها.
وفي مقابل قرار المحقّق العدلي بالإدعاء على شخصيات أمنية وسياسية وقضائية رفيعة، قرّر أيضاً إخلاء سبيل 5 موقوفين في ملف المرفأ من أصل 17، من دون كفالة، مع منعهم من السفر.
وعلم أن المحقّق العدلي ردّ طلبات لتخلية سبيل موقوفين آخرين كانوا تقدّموا بها، واعتبرت مصادر قضائية، أن خطوة البيطار مخالفة للقانون الدولي، لأنه إتّخذ قراراً بالافراج عن 6 موقوفين، فيما أبقى على الآخرين في السجن، محذّرة من أنّ ما قام به قد يفتح المجال أمام أهالي الموقوفين الآخرين لرفع شكوى ضدّه، لمخالفته المعايير القانونية والانسانية والدولية.
ولم يتأخر القاضي عويدات في الرد بصورة قاسية على قرارات البيطار بتوجيه كتاب إلى “المحقق العدلي المكفوفة يده”، (وفق تعبيره)، جاء فيه: “نؤكد أن يدكم مكفوفة بحكم القانون ولم يصدر لغايته أيّ قرار بقبول أو برفض ردّكم أو نقل أو عدم نقل الدعوى من أمامكم”.
وإزاء رد عويدات، من المتوقع أن تتعاطى النيابة العامّة التمييزيّة مع القرار الصادر عن البيطار وكأنّه منعدم الوجود، ما يعني أنّها لن تنفّذ قرار إخلاء السبيل ولا قرار الادّعاء.
ككلّ حدث في لبنان، البلد القائم على المحاصصة السياسية والطائفية، التي لم توفر القضاء، الذي تخضع كلّ التعيينات فيه إلى تلك المحاصصة، مما أفقده استقلاليته ونزاهته، فإنّ خطوة البيطار، قوبلت بانقسام سياسي في شأنها، بحيث أن البعض اعتبرها خطوة جريئة، في حين أن البعض الآخر وصفها بالمتهورة، التي قد تطيح بالقضاء اللبناني إلى غير رجعة.
بانتظار ما سوف تؤول إليه التطورات القضائية بشأن قضية إنفجار المرفأ، الذي يعدّ واحداً من أكبر الانفجارات غير النووية في الذاكرة الحديثة،، فإنّ من المؤكد أنّ البلاد دخلت في فوضى قضائية عارمة، غير مسبوقة، سوف تزيد من متاهات التحقيقات بشأن قضية الإنفجار، وتمييعها في دهاليز السلطة السياسية، مما سيكرّس كما جرت العادة، سلوك القوى السياسية والقضائية والأمنية، في “الافلات من العقاب”، الذي لطالما طبع المشهد العام في بلد يحفل تاريخه باغتيالات وانفجارات وملفات فساد، لم يتمّ يوماً الكشف عمن يقف وراءها، ولا محاسبة أيّ من المتورطين فيها.
صحيح أن متابعة المسار القضائي يُعدّ مطلباً ضرورياً، لاستعادة مصداقية مؤسسات الدولة اللبنانية، وضمان احترام سيادة القانون، وإرساء مبادئ المساءلة وإنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب، إلّا أنّ الواقعية تقتضي أنّ ذلك غير ممكن مع هذه السلطة السياسية الفاجرة، وبالتالي لا يمكن التعويل على كلّ أجهزتها القضائية والأمنية، التي هي امتداد لها، لتصل التحقيقات إلى أي نتيجة مفيدة، من شأنها إظهار الحقيقة.
لذلك، فإنّ الرهان يبقى على فتح تحقيق دولي مستقل، من خلال النظام المتعدد الأطراف، تحت إشراف الأمم المتحدة، علّه يتمكن من التوصل إلى نتائج ملموسة، فشلت، أو فُشّلت السلطات اللبنانية في الوصول إليها.
فهل زيارة الوفد القضائي الفرنسي الى لبنان للاستفسار عن معلومات طلبها القضاء الفرنسي الذي يجري تحقيقاً في باريس بشأن مقتل فرنسيين وإصابة آخرين بإنفجار المرفأ، تمهد للتحقيق الدولي؟