تنقضي اليوم سنة من عمر لبنان شكّلت، وبلا مبالغة، مجهراً على حقائق السياسة اللبنانية نتيجة ما بدأت به من زلزال سياسي إثر إعلان الرئيس سعد الحريري في خطاب من “بيت الوسط” في ٢٤ كانون الثاني ٢٠٢٢ تعليق عمله السياسي وعدم خوضه وتيار “المستقبل” الانتخابات النيابية التي أنتجت فيما بعد مجلساً نيابياً يشكّل لُبَّ العقم اللبناني، وما تنتهي به اليوم من همجية وإستخفاف في التعاطي مع إستحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وما بينهما من لعبة “البروباغندا” والتعمية والمراوغة والتعطيل التي يعتمدها “الحلفاء الخصوم” والخصوم تجاه إرث الحريرية الوطنية وحاضرها.
وقف الرئيس سعد الحريري يوماً على المنبر الخارجي لمجلس النواب بعد اجتماع الهيئة العامة في قصر “الأونيسكو” قائلاً: “بدكم تحطوا الحق على الحريرية السياسية خلال ٣٠ سنة وعلى سعد الحريري مش مشكلة… المهم الناس بتعرف الحق على مين وشو يلي صار بالبلد”.
وانطلاقاً من هذا الكلام، أسس سعد الحريري لقناعة بضرورة قلب الطاولة على مسلسل تحريف الماضي والحاضر إستغلالاً لنقاط ضعف تتغلَّف بغلاف وطني، مستنداً إلى محبة الناس، حتَّى وصل به المطاف الى تحبيذ العودة إلى صفوف الناس والعيش مثلهم على البقاء في قيادة مركبٍ حيث “كل مين إيدو إلو”.
لقد أثبت سعد الحريري بتعليقه العمل السياسي أنَّ لا مجال في لبنان لفرض زعامة سنّية خارج الارادة الشعبية التي انصبَّت بقرار منها وبنسبة كبيرة في الانتخابات النيابية لصالح صندوق “المقاطعة” أو “الورقة الملغاة” أو “الورقة البيضاء” التي لم ولن يدعو إليها تيار “المستقبل” حينها، ولتتخطى حدود الطائفة السنية نحو آفاق سعد الحريري الوطنية جامعاً الناس من مختلف الطوائف تحت نهج الدولة والمؤسسات والحرية والعدالة معه وحده دون غيره، ليكسر بذلك شوكة من أمعنوا في طعنه وأكل لحمه أكانوا من أهل البيت أم من خارجه.
لقد ثبَّت سعد الحريري نفسه قائداً وطنياً فضّل الانسحاب من مسرحية “التفنيص” على الناس، بعد أن كان مجرَّد مشاهد فيها، على البقاء وإعطائها هذا الشّرف الذي سيقلِّل من قيمته وموقفه تجاه التاريخ الوطني.
لقد أثبت أنَّ لا مجال بعد للتجريب بالناس في مواجهة الاحتلال الايراني بواسطة “حزب الله” وأنَّه لا بدَّ من التفكير في طريقة جديدة تبقي للبنان كيانه وتحميه من التناحر والدمار، وأكَّد على أحقيّة سياسة ربط النزاع بعد أن استلم المزايدون عليه موقعه وكتلته النيابية، فلم ولن يجدوا طريقة للمواجهة إلاَّ من خلال هذا الباب في كل الاستحقاقات التي خاضها المجلس النيابي الجديد بدءاً من انتخاب رئيس المجلس ونائبه، مروراً بتكليف رئيس للحكومة، وصولاً إلى انتخاب رئيس للجمهورية، “والحبل ع الجرار”.
لقد ترك سعد الحريري موقعه في المعادلة السياسية اللبنانية وهو عالم بمن سيخلفه. يعلم أنَّ لـ “القوات اللبنانية” مثلاً هَماً وحيداً ينحصر بزيادة عدد نواب كتلتها لتتربع على عرش أكبر كتلة مسيحية في مواجهة “خائن إتفاق معراب” بحيث تتأمَّن لها الكلمة الفصل في تقرير مصير المواقع المسيحية في مؤسسات الدولة، أمَّا باقي القضايا فيتم تمرير الوقت فيها بـ “اللوفكة” على الناس.
ويعلم أيضاً أنَّ مجموعات “١٧ تشرين” المشرذمة حينها ستنتج مجموعة نوّاب يريد كلّ منهم فيها أن يكون الـ”admin”، وإلاَّ إلى الـ”left” فوراً.
إنَّ تعليق سعد الحريري عمله السياسي، وقد يكون قبل ذلك، أثبت أن الليرة اللبنانية فعلاً كانت بألف خير في ظل علاقاته الدولية وقدرته على أن يكون “دينامو” الاقتصاد اللبناني بعد إقرار الاتفاقيات الاقتصادية ومؤتمر “سيدر” التي تعطّلت مفاعيلها نتيجة النكد السياسي والحقد على مسيرة بناء الدولة والمؤسسات التي بدأها الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأراد أن يستكملها الرئيس سعد الحريري، وأنَّ لا ديبلوماسية ولا حوار في لبنان إلاَّ عبره، بحيث لا مشروع بديل من أي من الأطراف قُدِّم بديلاً للحريرية وما من مشروع غيرها بادر الى الحل، فانحصروا جميعاً ضمن مستوى عرض المشكلات.
لقد أنجز سعد الحريري بتعليقه العمل السياسي أنه بَيَّنَ لكثيرين، على الرغم من تسليم الشُّعلة للفراغ، أنَّ هذا الفراغ غير دموي بعد أن عمل طويلاً على دحض التطرّف والفتنة وطرد الإرهاب والتأسيس لفكرة الدولة لدى محبّيه بدل زرع الكراهية والاستنفار الدائم في وجه أطراف في الوطن.
كما وسَّع نطاق “الحريرية الوطنية” بجعلها تشد عضدها بالوفاء والمحبَّة الخالصة والوعي الوطني بعيداً عن المصالح، ليعود بإرادة هؤلاء حين يكون لبنان بات جاهزاً لسلوك سِكَّتِه.