القضاء يقضي على نفسه بنفسه

25 يناير 2023
القضاء يقضي على نفسه بنفسه


ما شهده الجسم القضائي في اليومين الأخيرين، وبالتحديد اليوم، سواء على خلفية إعادة التحقيق في جريمة انفجار المرفأ، وإطلاق جميع الموقوفين، أو على خلفية بدء الوفود القضائية الأوروبية تحقيقاتها في بيروت في ملف التحويلات المالية من لبنان الى الخارج تحوم حولها شبهات الفساد وتبييض الأموال، يمكن اعتباره امعانًا في تشويه صورة لبنان، في الداخل والخارج.   فالدستور الذي ينظّم بالتساوي شؤون الناس وعلاقتهم بين بعضهم البعض من جهة، وعلاقتهم بدولتهم من جهة ثانية، يشدّد على الفصل بين السلطات، وهو مبدأ أساسي من أجل انتظام العلاقة السوية بين هذه السلطات، التي يُفترض أن تتكامل أدوارها لما فيه المصلحة العامة. فلا السلطة التنفيذية تتدّخل في عمل السلطة التشريعية، ولا تلك لها شأن بالعمل التنفيذي للحكومة ما عدا مراقبة أعمالها ومساءلتها، وعند الضرورة محاسبتها وحجب الثقة عنها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى العمل القضائي.   
فلولا التدخلات السياسية على مرّ العصور والعهود في الشأن القضائي لكان القضاء في أحسن أحواله. ولو كان الجسم القضائي محصّنًا بما فيه الكفاية لما سمح للسياسيين بأن يحشروا أنوفهم في شأن من غير اختصاصهم. وهذا ما لمسناه في آخر اجتماع لمجلس القضاء الأعلى، حيث كان الخلاف بين القضاة، أعضاء المجلس، سيد المواقف، حيث تباينت هذه المواقف إلى حدّ التنافر الناتج عن الانتماءات السياسية المختلفة لكل من هؤلاء القضاة المفترض بهم، من حيث المنطق، أن يكونوا فوق الاصطفافات الحزبية، لكي يستطيعوا أن يحكموا بالعدل، وأن تكون قراراتهم مجرّدة ومنزّهة عن أي غاية أو مصلحة غير المصلحة العامة. وبهذا يمكن القول، ومن دون أي مبالغة، أن القضاء المنقسم على نفسه، هو نفسه الذي يسمح للآخرين بالتدّخل في شؤونه الداخلية، واستضعافه واستهدافه والتقليل من أهمية دوره.   فمعالجة ملف المرفأ لا تكون بالمكابرة ورفع السقوف السياسية، ولا بتعطيل أعمال السلطة التنفيذية، ولا بشّل البلد. فهذه المسألة لها أصولها، وهي متروكة للسلطات القضائية عملًا بأحكام النظام العام الذي به ينتظم العمل القضائي،  مع مراعاة الحال النفسية لأهالي الضحايا وما يعانونه جرّاء التباطؤ في التحقيقات القضائية، التي لا تزال عالقة عند كفّ يد القاضي طارق البيطار، الذي عاد إلى لعب دوره القضائي كمحقق عدلي.  
فإذا كانت القرارات والادعاءات التي يسطرّها القاضي البيطار مسيسة واستنسابية فإن لمعالجتها أصولًا، وفق تراتبية هرمية محكمة لا تشوبها شائبة، من حيث مفاعيلها ونتائجها. فإذا ثبت للسلطات القضائية وفق التسلسلية الطبيعية للمسؤولية أن ما يقوم به القاضي البيطار اليوم، أو أي قاضٍ آخر بما لا يتوافق والأصول الحكمية فإن إقصاءه يتمّ من داخل “البيت القضائي” فقط، وليس عن طريق أي آلية أخرى.   
من هنا يبدأ الإصلاح. ومن هنا أيضًا يمكن الدخول إلى “بيت القصيد” في عملية مكافحة الفساد بطريقة منهجية وعلمية وعملية. ومن هنا أيضًا يمكن العودة طبيعيًا إلى انتظام عمل المؤسسات، الذي لا يمكن أن يستقيم في ظل تغييب دور رئيس الجمهورية، وعدم إقدام نواب الأمّة على انتخاب رئيس جديد، الذي من دونه لا تستقيم الحياة السياسية. وهذا ما يجب أن يفهمه بعض السياسيين، الذين لا يريدون انتخاب رئيس ولا يريدون أن تكون الحكومة الحالية منتجة، ويريدون بالتالي تعطيل كل شيء، وحتى تعطيل حياة الناس، والحؤول دون إيصال ما يمكن إيصاله من خدمات أساسية وضرورية، من خلال منع الوزراء من القيام بواجبهم الوطني وتسيير عمل المرافق العامة عبر الجلسات الحكومية المتتالية. فشؤون الناس أهم بكثير من أي شأن آخر، باستثناء أولوية انتخاب رئيس جديد للجمهورية.  
أتركوا ما للقضاء للقضاء، وأرفعوا أيديكم عنه فيكون للملك أساسه الصالح وغير القابل للمساومات وأنصاف الحلول.     
فما يحصل اليوم داخل الجسم القضائي من تداخل للصلاحيات قد يكون مقدمة لما هو أبعد من الأمور الظاهرة، وهذا ما سنتناوله في مقالة الغد.