ما أن ينتهي أسبوع مليء بالمفاجآت غير السارّة حتى يبدأ آخر أسوأ مما سبقه. وفي كل يوم من أيام الأسابيع الآتية أو الماضية تتوالد مشكلة جديدة. وهكذا يقضي اللبنانيون أيامهم في عدّ المشاكل، التي بات حلّها يتطلب تدخلًا غير عادي، وبالطبع غير داخلي. فاللبنانيون أثبتوا أنهم أعجز من أن ينتخبوا رئيس لجنة أو رئيس بلدية، فكيف الحال مع انتخاب رئيس لبلادهم، وأثبتوا أكثر فأكثر أنهم غير قادرين على إنقاذ بلادهم من حريق “سيأكل” الأخضر واليابس، عاجلًا أم آجلًا. هم لا يزالون في طور المراهقة، ولم يقتنعوا بعد بأنهم بلغوا سنّ الرشد ولم يعودوا قصّارًا، أو أنهم في حاجة دائمًا إلى من يأخذهم بيدهم ليقطعوا من رصيف إلى آخر من دون أن تدهسهم سيارة مسرعة يقودها سائق متهوّر.
العثمانيون حكموا لبنان حوالي 400 سنة، ومن بعدهم جاء الانتداب الفرنسي، قبل أن يستقّل لبنان غير المستقّل حتى الآن، لتأتي الوصاية السورية. فتاريخ لبنان محفور على صخور نهر الكلب، وهو تاريخ يحكي عن جلاء الجيوش الغريبة عن لبنان، ولكنه لا يذكر “ثورة” واحدة قام بها اللبنانيون لطرد الغرباء من أرضهم، باستثناء تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي.
الموفدون الدوليون الذين تُتاح لهم فرصة التعاطي بالملف اللبناني بكل ما فيه من تعقيدات يستغربون كيف أن اللبنانيين غير موحدّين حول فكرة إنقاذ بلدهم من الغرق الحتمي، وهم يشاهدون بأم العين كيف أن بحر الأزمات يبتلع “بلاد الأرز” من دون أن يبادر أحد من أبنائه إلى انتشالها من لجّة الغرق.
لا يفهم هؤلاء الموفدون، وكذلك السفراء، كيف أن اللبنانيين يعيشون وسط هذا التراكم من التناقضات من دون أن تكون لديهم رؤية موحدّة حول عملية الانقاذ. فهم مقتنعون بأن انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو بداية الحلّ لكثير من مشاكلهم، ولكنهم في الوقت نفسه لا يفعلون أي شيء على الإطلاق في اتجاه تطبيق الدستور أولًا، وفي التوافق في ما بينهم على مرشح ليس المطلوب منه حاليًا اجتراح الأعاجيب، بل إدارة الخلافات الكثيرة التي تتحكّم بعلاقاتهم بين بعضهم البعض. وهذا الأمر هو بالتأكيد ناتج عن عدم بلوغهم سن الرشد سياسيًا ووطنيًا.
ما لم يفهمه بعض الخارج الحريص على أن يعود لبنان إلى سابق عهده من الازدهار، وإن لم يكن هذا الازدهار مبنيًا على أسس متينة، وأن يعود إلى لعب دوره الطبيعي كصلة وصل بين شرق وغرب، وأن يعود ذاك المستشفى التخصصي، الذي لا غنى عن خدماته الطبيّة المتقدّمة، وأن يعود كذلك جامعة الشرق ومنارته. ما لم يفهمه هؤلاء المنشغلون في أمور كثيرة غير الهمّ اللبناني لا يفهمه أيضًا هذا اللبناني، الذي يعيش تحت “رحمة” الدولار المتفلت، وهو المستمرّ في تصاعده الصاروخي من دون أي ضابط.
فاللبناني يعيش اليوم هواجس مكدّسة فوق بعضها البعض. يحتار أي هاجس عليه أن يواجه. هل هو هاجس “الدولار الأخضر”، أم هاجس الدواء المفقود، أم هاجس الرغيف المجبول بالدّم، أم هاجس تعليم أولاده، أم هاجس التفتيش عن مستقبل في وطن بات من دون مستقبل، أم هاجس السعي وراء لقمة العيش المرّة؟ ولعل وصف جبران خليل جبران في رائعته “مات أهلي” ينطبق إلى حد كبير على الواقع الذي يعيشه لبنان اليوم: “لم يمت أهلي متمردين، ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم فانقرضوا مستسلمين. مات أهلي على الصّليب. ماتوا صامتين لأن آذان البشريّة قد أغلقت دون لو ثار قومي على حكامهم الطغاة وماتوا جميعا متمردين لقلت إن الموت في سبيل الحرية أشرف من الموت في ظلال الاستسلام.. ومن يعتنق الأبدية والسيف في يده كان خالدا.
لو اشتركت أمتي بحرب الأمم وانقرضت عن بكرة أبيها في ساحة القتال لقلت هي العاصفة الهوجاء تصهر بعزمها الأغصان الخضراء واليابسة معا.
ولو زلزلت الأرض زلزالها وقلبت ظهر بلادي صدرًا وغمر التراب أهلي وأحبائي لقلت هي النواميس الخفية تتحرك بمشيئة قوة فوق قوى البشر، فمن الجهالة أن نحاول إدراك أسرارها وخفاياها، ولكن لم يمت أهلي متمردين ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم.” هذا بعضٌ من تاريخ. وهذا بعضٌ مما لم نستفد منه على مرّ السنين.