يوم لجأ مار مارون إلى عبادة ربّه بكل إيمان وتجرّد وانسحاق لم يرد في ذهنه أن الذين اقتدوا به وتبعوه وتركوا ما في هذا العالم من ملذات دنيوية سيحملون في يوم من الأيام اسمه، وسيدعون “موارنة”، وسيستقرون في جبال لبنان العصّية على كل محتل، والتي ستتحوّل إلى ملجأ لطالبي الحرية بعدم اشتداد حملات الاضطهاد في المنطقة.
Advertisement
كان همّ مار مارون الوحيد مناجاة الخالق، في الليل والنهار، في الحرّ والبرد. لم يكن يهتمّ كثيرًا بأمور الأرض، ولم تكن مغرياتها تستهويه. عاش التجرّد حتى الاتحاد الكلي بمن آمن به مخلّصًا وحيدًا من الخطيئة والشرّ. وعلى مثاله سار وراءه كثيرون فكانوا بدورهم رسل سلام ومحبة. زرعوا الوعر قمحًا وتفاحًا وعنفوانًا وكرامة. عاشوا متحدّين متكاتفين غير متناحرين. لم يكونوا سوى تلك الخميرة في عجنة العالم. لم تغوهم خيرات الأرض ومفاتنها. لم يهتمّوا بالسياسة وزواريبها ودهاليزها. لم يتنافسوا إلاّ على فعل الخير. لم يكونوا إلى السلطة ساعين، ولا إلى الجاه طامحين، ولا بالخيرات الزائلة والزائفة طامعين.
هؤلاء هم الموارنة، الذين فتّتوا الصخر، وطوعّوا الجبال الوعرة، وحوّلوها إلى جنائن عامرة بالخير والبركة. لجأوا إليها هربًا من الاضطهادات، فاستطابوا الإقامة. في تلك الجبال سكنوا، صلّوا، قاوموا، وعاشوا متحدّين ومتحدّين عوامل الطبيعة القاسية والغزاة. لم تكن الانانية قد غزت قلوبهم بعد. ولم يكن الطمع قد دخل قلوبهم وسيطر على عقولهم. لم تكن الشهوة إلى السلطة قد أعمت بصيرتهم وبصرهم. لم يكن الحقد قد وصل إلى قلوبهم. كانوا أنقياء كثلوج جبال الأرز. كانوا ثابتين في الأرض، التي أسقوها عرقًا ودمًا، كثبات الأرز.
فبعد 1613 سنة على وفاة مار مارون أين هم اليوم هؤلاء الذين يحملون اسمه؟ ماذا يعرفون عن حياته، عن جهاده، عن تجرّده، عن تعاليمه، عن وصاياه، عمّا كان يحلم به، وعمّا كان يتطلّع إليه، وعن دوره في هذا الشرق، أرض الرسالة والقداسة؟
أين هم اليوم من كل هذا؟
هم اليوم منقسمون، مشتّتون، تائهون. لا يعرفون ماذا يريدون. ولماذا يحملون اسم هذا القديس العظيم. فهم وحدهم من بين شعوب الأرض قاطبة يحملون اسم قدّيسهم.
لو كان مار مارون يعرف أن الذين سيحملون اسمه في يوم من الأيام لن يسيروا كما يجب على الدرب الذي رسمه لهم لفعل المستحيل كي لا يحمل أحد اسمه، وهو الذي لم يمالق ولم يساوم على القيم التي آمن بها. هو اليوم، وفيما لبنان الرسمي يعيّد له، حزين. يتطلع من حيث هو فلا يرى سوى مجموعات متفرقة ومتخاصمة ومتحاربة. يرى الموارنة المفترض بهم أن يكونوا قدوة ومثالًا لغيرهم يتسابقون على كرّسي أفرغوه من مضمونه ومن رمزيته، وذلك لكثرة أنانياتهم وشغفهم بالاستئثار.
هؤلاء الموارنة، الذين أعمت بصيرتهم شهوتهم للسلطة والتسّلط، لم يبق لديهم مما تركه لهم مار مارون سوى ذاك الاسم المذكور على تذكرة هويتهم. فلا هم متحدون؛ ولا هم محبّون بعضهم لبعض، بل مبغِضون؛ ولا هم رسل سلام ومحبة؛ ولا هم تلك الخميرة الجيدة؛ ولا هم ساعون إلى بناء وطن الانسان؛ ولا هم مع تدعيم أسس العيش الواحد مع إخوانهم في المواطنية. فمن لا خير فيه مع أهل بيته لا يُرجى منه أن يكون على وئام مع الآخرين.
كلام قد لا يعجب كثيرين من الذين يدّعون بأنهم يحملون إرث مار مارون، ولكنه كلام حقّ هو، مع أنه محزن بما فيه من واقعية.
مار مارون في عيده الـ 1613 حزين.