استحوذت “حركة” رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري، بالتوازي مع الذكرى السنوية الثامنة عشرة لاغتيال والده، رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، على صدارة الاهتمام السياسي في البلاد خلال اليومين الماضيين، رغم مضيّ الرجل في قراره المتّخذ منذ نحو عام بتعليق نشاطه السياسي، وفق كل المؤشّرات، التي ترجّح أن يلتزم بـ”الصمت” في إحياء الذكرى، سواء على ضريح والده، أو في بيت الوسط.
فرغم أنّ تيار “المستقبل” أحجم للعام الثاني على التوالي عن تنظيم أيّ نشاط في ذكرى اغتيال “الرفيق”، كتلك المهرجانات المركزية التي دأب على تنظيمها بوتيرة سنوية منذ العام 2005، والتي كانت تشكّل مناسبة للكلام السياسي الواضح والصريح من جانب “الشيخ سعد”، نجح الأخير في “خطف” كلّ الأضواء، لتُسلّط على “حركته”، فضلاً عن “أجندته”، وما يمكن أن تنطوي عليه من نوايا “ضمنية”، تخصّ ربما مستقبله السياسي.
ولعلّ الشعار الذي اختاره مناصرو تيار “المستقبل”، في الحملة الإعلانية المرافقة للذكرى، “ما خلصت الحكاية” يختصر الكثير ممّا يُراد إيصاله للرأي العام، بل يَفي بالغرض من دون الحاجة إلى “كسر الصمت”، ما يطرح سلسلة من علامات الاستفهام، فأيّ “رسائل” يوجّهها الحريري بحضوره “الصامت” في بيروت؟ وهل تشكّل “زيارته المؤقتة”، كما يصفها البعض، إيذانًا بعودة ثابتة، قد لا تكون بعيدة المدى زمنيًا؟! “ما خلصت الحكاية” صحيح أنّ المحسوبين على تيار “المستقبل” ينفون أيّ “تغيير” على مستوى قرار الحريري تعليق نشاطه السياسي الذي اتخذه قبل أكثر من عام، وعزف بموجبه عن خوض الانتخابات النيابية التي جرت في أيار الماضي، وحتى عن دعم أيّ مرشحين، بمن فيهم من كانوا تاريخيًا من حصّة “التيار الأزرق”، لكنّ العارفين لا يتردّدون في الجزم بأنّ “خلف” رحلته “البيروتية” المستجدّة الكثير من العِبَر والرسائل التي تستحقّ الاهتمام. يندرج في هذا الإطار شعار “ما خلصت الحكاية” الذي يرفعه “المستقبليّون” أو من يدور في فلكهم، عن سابق تصوّر وتصميم، كتأكيد على أنّ “مسيرة” الحريري السياسية لم تنتهِ، ولو كان في “استراحة محارب”، إن جاز التعبير، علمًا أنّ الأسباب “الموجبة” لهذه الاستراحة لم تنتفِ بعد، خلافًا لما أثاره البعض بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، حين روّج أنّ الحريري سيعود إلى بيروت في اليوم التالي من أفول “العهد”.
لكن، يندرج أيضًا في هذا السياق، ما يحكى عن “أجندة” الحريري في بيروت، من التحرك “الرمزي” أمام ضريح والده، إلى فتحه أبواب بيت الوسط أمام المؤيدين والمحبّين، علمًا أنّ المحسوبين على “المستقبل” يؤكدون وجود “جدول مواعيد” محدّدة للحريري، مؤكدين في الوقت ذاته أنّ كلام الرجل كان عموميا من دون الغوص في “متاهات” الداخل ودهاليزه. هل يعود الحريري؟ استنادًا إلى ما تقدّم، يقول العارفون إنّ أحدًا لا ينكر وجود “رسائل مشفّرة” اراد الحريري توجيهها للقاصي والداني من خلال حضوره إلى بيروت ، وفي توقيته “المدروس”، ولعلّ ما يراهن عليه المحيطون به يكمن في “الحشود العفوية” التي رافقته واحاطت به، وهي حشود يسعى تيار “المستقبل” لتوظيفها للتأكيد على “زعامة” الرجل التي لم تخمد بمرور عام، على “اعتكافه” السياسة بكلّ أشكالها وأساليبها.
ثمّة من يرى أنّ هذه الرسائل قد تكون موجّهة لمن كانوا السبب بانسحاب الرجل من ميدان السياسة، والذين أشار إليهم بصراحة في خطابه “الوداعي” الأخير من بيت الوسط، لكن ثمّة من يعتبر أنّها موجّهة تحديدًا لأولئك الذين حاولوا “وراثته وهو حيّ” إن جاز التعبير، وبعض هؤلاء ممّن كان يُعتقَد أنّهم “أقرب الأقربين” إليه، إلا أنّهم فشلوا في “استقطاب” الحالة “الحريرية”، التي بقيت “ثابتة” في مواقعها.
لا يعني ما سبق أنّ الحريري “يعِدّ العدّة” من أجل العودة الثابتة والنهائية، فظروف مثل هذه العودة كما يقول العارفون لم تنضج بعد، فضلاً عن أنّ “أولويات” الحريري في مكان آخر في ظلّ الظروف الحالية، لكنّه يعني أنّ الرجل لا يزال يتمتّع بـ”حيثيّة”، ربما زادت بدل أن تنقص، وقد عزّزتها حالة “التشتت” التي أفرزتها الانتخابات النيابية الأخيرة، خصوصًا في الساحة السنية، كما أضحى واضحًا للجميع.
ليس حضور الحريري في بيروت اليوم “تفصيلاً”، ولو أنّ الرجل ماضٍ في تعليق نشاطه السياسي بالمُطلَق. فحتى لو أنّ الرجل هنا ليحيي ذكرى اغتيال والده ويصلّي على الضريح، بـ”صمت”، إلا أنّ السياسة، الغائبة ظاهريًا عن الزيارة، تبدو أكثر من “حاضرة” في دلالاتها وعِبَرها، دلالات وعِبَر قد يكون على الكثيرين أخذها في الاعتبار، في القادم من الأيام…
