خفايا ورسائل.. ماذا حقّق الحريري من حضوره الأخير إلى لبنان؟
ليست عاديةً أبداً العودة الأخيرة للرئيس سعد الحريري إلى لبنان، سواء بمضمونها وخفاياها، إذ أنّ جملة المواقف التي تمّ إطلاقها كانت كفيلة برسم صورة واضحة للمسار الذي اختاره زعيم تيار “المستقبل” على الصعيد السياسي وفي ما خصّ علاقاته في الداخل.
حُكماً بين السطور تكمنُ رسائل الحريري باتجاه مختلف الأطراف، فهو ناقمٌ على السّلطة، و”لا شريك له حالياً في السياسة التي تركها”، لكنّه في المقابل متمسّك بخيار العودة إلى النّاس مع تأكيده على أنّ بيت الوسط سيبقى مفتوحاً بوجود “المُحبّين”.مع كل ذلك، يبقى صحيحاً أن عودة الحريري إلى لبنان لم تدُم طويلاً نظراً لارتباطها بمضمون ذكرى 14 شباط، إلا أنها استطاعت تحقيق الكثير من النقاط على الصعيدين السياسي والشعبي. فبصورةٍ واضحة، كانت مشهدية الـ14 من شباط برمزيتها دليلاً على أنّ الحريري استطاع تكريس نفسه من جديد كـ”رقمٍ صعب” على الساحة السياسية، فغيابهُ لم يكسرْ فكرة “لمّ الشمل”، والدليل على ذلك هو توافد الحشود الشعبيّة من مختلف المناطق إلى ساحة الشهداء لإحياء ذكرى إستشهاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري. هُنا، تكمن الرسالة الأساس، فالحريري سجّل نقطة لصالحه مُجدداً عبر التأكيد على أنه ما زال الطرف العابر للمناطق بعيداً عن الفئوية، كما أنه بقيَ الجهة التي تستقطب اللبنانيين من مختلف الطوائف. وعليه، يمكن أن يكون كل ذلك بمثابةِ الرّصيد الأساسي للحريري في حال قرّر العودة السياسية، إذ من خلال مشهد “الجمع” الذي يحققه، سيكون قد أكّد على تحرّره من أي انغلاق سياسي، وبالتالي تثبيتِ وجودٍ على صعيد لبنان ككل في وقتٍ عجزت فيه أطراف كثيرة عن تحقيق ذلك، رغم جذورها السياسية المتأصلة.ما حققه الحريري خلال زيارته الأخيرة هو أنه تميّز عن الآخرين في النهج الذي اختاره.فالعزوف عن العمل السياسي في الوقت الرّاهن جنّبهُ الكثير من الأثقال السياسية التي تحملها أطرافٌ كان حليفاً لها، سواء تلك المرتبطة بانتخاب رئيس الجمهورية وصولاً إلى الحلول للأزمة الاقتصادية وغيرها. وعملياً، فإنّ الحريري يمكن أن يكون من أكثر الرابحين بإنزوائه التام عن تلكَ الملفات، إذ أن التنازلات السياسية التي قدمها سابقاً لم تتكرر الآن، في حين أنه قرّر أن يكون الطرف الأكثر بُعداً عن التبدلات التي قد تطيحُ بالكثيرين. حتماً، هي “ضربة ذكاء” نظرية الإبتعاد لاسيما أنّ صورة لبنان عند دول القرار تزداد قتامة بسبب الأطراف الموجودة حالياً، في حين أن الحريري يراقب من بعيد، وما يريحه أكثر هو أنه حالياً سيكون بعيداً عن “المجهر الدولي” الذي قد يمهد لعقوبات على أطرافٍ تعرقل العملية السياسية في لبنان، وتحديداً انتخاب رئيسٍ جديد.بشكلٍ أو بآخر، فإنّ الحريري وبعودته الأخيرة كان الطرف الذي جمع مختلف الأطراف، فـ”الكتائب” كانوا عنده، وكذلك “القوات” و”الإشتراكي”، حتى إنّ “حزب الله” وبشكل غير مباشر يُؤكد على أهمية العودة. كذلك، يأتي اللقاء الأبرز الذي جمع الحريري مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، أمس الأربعاء، والذي يكشف عن دلالات كبرى في ترسيخ العلاقة بين الطرفين. أما الأهم فكان موقف رئيس الجمهورية السابق ميشال عون الذي اتصل بالحريري وشدّد على أهمية حضوره في لبنان.. هنا، الرسالة من كل ذلك لا يمكن الإستخفاف بها، فالحريري حاجة وطنيّة وسياسية، وما يظهر هو أنَّ هناك معضلة كبيرة تتصلُ بالأطراف الأخرى التي تسعى قدر الإمكان لـ”إعادة قطف تحالفات” مع الطائفة السنية باعتبارها من الطوائف الأوسع تمثيلاً. إلا أنّ الحريري، وبتجديد تأكيده “تعليق العمل السياسيّ”، منع أي “استغلال” جديد للطّائفة، موصداً الأبواب أمام مختلف الأفرقاء اللاهثين للإستحواذ على ملاذٍ فيها سياسياً وانتخابياً.. حقاً، ما يظهر اليوم هو أنّ الحريري كان أقوى من ذي قبل، فقد باتَ “قِبلة” لمختلف الأطراف وليس أداة، وشروطه اليوم ستكون أكثر ثباتاً في حال قرّر العودة، ونقاط قوته ترتفع لأن غيابه لم يُفرز عن البديل المطلوب على السّاحة.ضمنياً أيضاً، فإن ما يتبين هو أنّ معظم الأطراف في الشق المسيحي تحاول أن تستقطب الحريري إليها من جديد، فالبحثُ عن حليف سنّي هو حاجة كبرى لها، لكن الحريري لم يُعطِ الضمانات لأحد، حتى لحليفه الأساسي رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط. وإزاء ذلك، فإنّ ما يمكن قوله هو أنّ زعيم “المستقبل” لا يفكر بالعودة، فالطريق أمام الجميع مقفلة، ما يعني أن اللحظة لم تحِن بعد.. والسؤال الأساس: ماذا ينتظر الحريري؟ متى سيعودُ حقاً؟ هل رحيل أطرافٍ عديدة عن الساحة سيكون مقدمة لإستئناف العمل السياسي؟ الأيام المقبلة كفيلة بكشف ذلك..