في العام 1973، رخّصت الحكومة لشركة “بروتيين”، التي كان يترأس مجلس إدارتها الرئيس الأسبق للجمهورية كميل شمعون. ومنحت الشركة امتياز صيد الأسماك بواسطة بواخر حديثة، بالاشتراك مع شركات أجنبية، فوجد الصيادون في “بروتيين” تشريداً لهم ولعائلاتهم عبر قطع أرزاقهم. وعلى الرغم من المطالبات المستمرة والحثيثة، من نقابات الصيادين في لبنان للحكومة بإلغاء الترخيص، على مدى عام ونصف العام، الا أنها لم تلقَ آذاناً صاغية!
وحالة عدم المبالاة هذه، تزامنت مع موجة عارمة من الاحتجاجات والاضرابات والتظاهرات المطلبية بوتيرة متصاعدة إلى أن بلغت ذروتها في العام 1975، الذي يمكن وصفه بعام “الانفجار الكبير”، مع تظاهرة الصيادين في صيدا واغتيال النائب الشهيد معروف سعد، التي كانت شرارة كافية لحرب مدمّرة، لم يكن أحد يدرك أنّها ستستمر زهاء ١٥ سنة، خصوصاً وأنّ كلّ عواملها السياسية والاجتماعية قد توافرت، لتحصد تلك الحرب العبثية، الخراب والدمار والقتل والانقسام السياسي والطائفي وانهيار منظومة الدولة.
تظاهرة الصيادين إحتجاجاً على “بروتيين”:
في يوم أربعاء ماطر بتاريخ 26 شباط 1975، إنطلقت تظاهرات سلمية مطلبية للصيادين على طول الساحل اللبناني، ومنه صيدا، احتجاجاً على إنشاء شركة “بروتيين”.
وفي التفاصيل، أنّ القضية بدأت بتظاهرة صغيرة للصيادين الذين كانوا يحتجون على منح شركة “بروتيين” رخصة لاستثمار الثروة السمكية، وما لبث أن التحق بها تجار المدينة، كما قطع طريقا صيدا – بيروت وصيدا – صور بالاطارات المشتعلة.
ولقمع التظاهرة زجت السلطة بالجيش، الذي إنتشر بأعداد كبيرة في المدينة، مصحوباً بسيارات مصفّحة، للعمل على فتح الطرقات المقفلة أمام حركة السير، وفي موازاة ذلك انتشر جنود في ساحة رياض الصلح الحيوية في صيدا.
إنطلقت تظاهرة الصيادين من مرفئهم تحت المطر بإتجاه الساحة المذكورة، يتقدمهم نائبا المدينة نزيه البزري ومعروف سعد، وممثلون عن الأحزاب اليسارية والمنظمات الفلسطينية. وعندما وصلت التظاهرة إلى ساحة رياض الصلح إستُفز المتظاهرون، عند مشاهدتهم لحشود الجيش، التي تقدمت نحوهم، بالتزامن مع تفجير أصابع ديناميت في الهواء.
إطلاق النار على المتظاهرين وإصابة سعد:
ولدى وصول التظاهرة قبالة مبنى البلدية، وقع المحظور، عندما إمتزجت أصوات تفجير أصابع الديناميت مع أصوات العيارات النارية، التي أصابت إحداها النائب سعد، وأوقعت عدداً من الجرحى.
وعلى أثر شيوع نبأ إصابة النائب سعد، إضطرب الوضع الأمني في المدينة، وما لبث أن بات خارج السيطرة، بحيث هُوجمت آليّتان للجيش بأصابع الديناميت، كما استُخدمت بصورة مفاجئة الأسلحة الرشاشة وقاذفاتُ الـ “أر بي جي”، فقُتل ضابط وأصيب عسكريان بجروح.
فعاليات المدينة تحمّل الجيش المسؤولية:
وحمّلت فعاليات المدينة وأحزابها الجيش اللبناني مسؤولية إطلاق النار، في حين برّر الجيش ما حصل، بأنّ التظاهرة لم تكن مرخصة، وأنّه لم يفتح النار إلا بعد تعرّض إحدى الآليات العسكرية للهجوم المسلح من بعض المتظاهرين. ثمّ تراجعت القيادة عن بيانها الأول، وأكدت أن الرصاصات التي أصابت سعد لم تطلق من عناصر الجيش.
وعليه، بات من الصعوبة بمكان تحديد الجهة التي أطلقت النار على النائب سعد، الذي ما لبث أن توفى لاحقاً متأثراً بإصابته الخطيرة، وفي المقابل، لم يكن ممكناً تحديد الجهة التي إستهدفت الجيش، وبقيت وقائع تلك الأحداث في نطاق فرضية المؤامرة المجهولة.
إضراب عام في صيدا:
إثر ذلك، شلّت الحركة تماماً في عاصمة الجنوب، بفعل الاضراب المفتوح الذي دعت إليه فعاليات المدينة، على أثر إستهداف النائب سعد بطلقات نارية. وشكّلت لجنة من الفعاليات برئاسة النائب البزري لمتابعة التطورات، وإجراء ما يلزم من إتصالات.
فشل مساعي جنبلاط في التهدئة:
لعب الزعيم الوطني الشهيد كمال جنبلاط دوراً أساسياً وبارزاً في محاولة التهدئة، ومنع زعزعة الاستقرار. فأوفد لهذه الغاية نائب رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” الوزير عباس خلف يرافقه القياديان اليساريان جورج حاوي ومحسن إبراهيم إلى مدينة صيدا للاجتماع مع اللجنة المذكورة. وفيما كان الاجتماع منعقداً تفاجأ المجتمعون، بمحاصرته بقوات كبيرة من الجيش، لتنتهي مفاعيل الاجتماع الهادف إلى تدارك التصعيد والمحافظة على الاستقرار.
مواجهات مسلحة بين الجيش ومسلحين محليين:
وإزاء ذلك، إنتشر مسلحون لبنانيون وفلسطينيون في شوارع المدينة بصورة عفوية، ثم هاجموا الوحدات العسكرية، من دون تعليمات من قيادات أحزابهم، ووقعت مواجهات إستمرت ٢٤ ساعة، كانت حصيلتها مفجعة، بسقوط ١٦ قتيلاً بينهم ٥ عسكريين، مما إضطر قادة بارزين من منظمة التحرير الفلسطينية الى التدخل لتهدئة الأوضاع وتشكيل لجنة مشتركة لبنانية – فلسطينية لاعادة الأمن والهدوء إلى المدينة، تمّ الإتفاق بين أعضائها على انسحاب الجيش. ولكن في اليوم التالي تعرّضت شاحنة عسكرية على مدخل المدينة إلى إطلاق نار فقضى جندي، لكن الحادث جرت معالجة ذيوله من خلال تسليم القاتل إلى السلطات اللبنانية.
بداية الانقسام اللبناني:
على الرغم من كل محاولات التهدئة، فإنّ التوتر تمدّد إلى العديد من المناطق اللبنانية، على قاعدة الانقسام حول دور الجيش، المتهم من القوى الاسلامية بأنه جيش منحاز وقمعي، في مقابل تضامن القوى المسيحية واليمينية معه. فنُظّمت تظاهرات تأييد له في معظم المناطق ذات الكثافة المسيحية، لتتوّج بتظاهرة مركزية كبيرة للغاية نفسها، مما فاقم من تصدّع المجتمع اللبناني وإنقسامه، مقروناً بإنقسام الخطاب السياسي، خصوصاً مع تقديم الزعيم كمال جنبلاط مشروعاً بإعادة هيكلة الجيش وإصلاحه وإنشاء مجلس قيادة له.
وفاة سعد وبداية الانفجار الكبير:
في 6 آذار، أسلم الشهيد معروف سعد الروح، متأثراً بالرصاصات التي غدرته من بين الجموع. ومثل غالبية الاغتيالات السياسية، وعلى الرغم من إحالتها على المحقّق العدلي، إلا أنّ التحقيقات لم تحسم هويّة الفاعلين.
وتصاعدت ردود الفعل الاحتجاجية عقب إعلان وفاته، وبلغت ذروة التوتر في ٧ آذار يوم تشييعه، في تظاهرة حاشدة، وقد لُفّ بالعلم الفلسطيني، لتتبع ذلك موجات متنقلة من الاضرابات والحوادث الأمنية في غير منطقة، وكان تكاثرها وتعاظمها، كفيلاً بالانفجار الكبير من خلال إشعال الحرب اللبنانية سنة ١٩٧٥.