قد يطرح كثر من اللبنانيين علامات استفهام حول علاقة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، فزيارات الأخير إلى بكركي تتكرر، وهو يعمل على الايحاء بأن دعوة البطريرك الراعي إلى الحوار المسيحي لانتخاب رئيس هي فكرته ومطلبه، محاولاً حشر “القوات اللبنانية” في زاوية الرافضين للحوار، بهدف الفصل بين بكركي ومعراب.
طبعاً لا يفتقر باسيل إلى الفكر “الشيطاني” الذي يشوّه صورة خصومه خلافاً للواقع، فـ”القوات” لم ترفض دعوة البطريرك الماروني إلى الحوار بتاتاً، بل تؤيده شرط أن يكون هناك جدوى منه، وآلية عمل تفضي إلى ترشيح إسم واحد وليس لقاء فولكلورياً فقط. فإذا لم يتوصّل المسيحيون إلى الاتفاق في بكركي حول إسم الرئيس العتيد، سيحمّلهم الفرقاء الآخرون، وأبرزهم “حزب الله” المسؤولية ليصوّر بأن المسيحيين غير متفقين والذنب ليس ذنبه.
فيما الواقع مغاير تماماً فهناك فريق وهو “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” وحلفاؤهما لا يزال متخبطاً ولا يستطيع الوصول الى رئيس جمهورية بإسم موحد لأن كل واحد لديه “الأنا” ويريد مصلحته الشخصية ولا يهمه البلد.
هذا الهاجس لا يفكّر فيه باسيل، بل يريد أن يكون المرشح المطلق أو بالحد الأدنى الاتفاق على مرشّح محسوب عليه، يتلاعب به كما يشاء عندما يصبح في قصر بعبدا، بحيث يبقى الرئيس الظل، وبالتالي هذا ما ترفضه “القوات” ولن تقبل به بتاتاً.
قد يتساءل سائل: ألا يعلم البطريرك الراعي ماذا يخطط له باسيل؟ في المبدأ البطريرك هو سيد بكركي والموارنة، بل يعتبر مرجعاً وطنياً، وفتح أبواب بكركي للجميع، وانطلاقاً من روح أبوية يستقبل باسيل وغيره. لكن ليس مستبعداً أن يتأثر أحياناً بـ “موّال” معيّن انسجاماً مع مخاوفه، وربما تكون كثيرة في هذه الأيام وهو حذّر منها في عظاته ولعل أهمها إفراغ المواقع المارونية في الدولة اللبنانية.
لا يختلف اثنان على أن باسيل يستغل هواجس البطريرك لحثّه على الدعوة الى لقاء مسيحي في بكركي، لاحراج خصومه من “القوات” إلى “المردة”.
أما ما قد يثير مخاوف الأحزاب السيادية، وأبرزها “القوات” فهو رغبة البطريرك القوية في انتخاب رئيس، لملء الموقع الماروني الأول في الدولة اللبنانية، ربما على حساب نوعيّة هذا الرئيس، لأن “القوات” تعلّمت من تجاربها السابقة وانطلاقاً من قناعة سياسية وشعبية بأنّ التنازل غير مفيد كون الانهيار سيتواصل فصولاً في ظلّ رئيس ممانع أو رئيس لا لون ولا طعم له، وبالتالي لا مخرج من هذه الأزمة المتعددة الأوجه سوى بانتخاب رئيس إصلاحي وسيادي.
في المقابل، تريد بكركي رئيساً مهما كان الثمن، ولعل رؤيتها تتطابق مع رغبة فرنسا التي تعمل ديبلوماسيتها على حثّ اللبنانيين على الاتفاق على أي رئيس، لذلك تشجّع البطريرك الراعي الذي أوكل إلى راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة المطران أنطوان بو نجم مهمة القيام بزيارات الى القيادات والشخصيات المسيحيّة في إطار تقريب وجهات النظر من أجل إنجاح الاستحقاق الرئاسي، والعمل على حصر وجهات النّظر، والمطالب، بحيث استهل لقاءاته مع باسيل، وتبعه لقاء مع رئيس حزب “القوات اللّبنانيّة” سمير جعجع، اضافة إلى الوزير السابق سليمان فرنجية، ورئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميل والنائب ميشال معوض والوزير السابق زياد بارود.
وحمل المطران بو نجم لواء الملف المسيحي ليحاول وفي فرصة واحدة العمل على شدّ وتر الأحزاب المسيحيّة أقلّها لناحية عدم الذهاب نحو الشتات الكامل، بل بتقريب وجهات النظر، وسحب الاحتقان.
وفي الواقع لا تختلف الأحزاب المسيحية على “شقفة” أرض، إنما تختلف استراتيجياً وبعمق، وقد يكون “تشخيص” بكركي غير دقيق لأسباب عاطفية وروحيّة، إذ تنطلق من مبادئ انجيليّة، فيما لا تحمل الأحزاب السياسة عواطف وروحانيات، بل تتنافس حول مشاريع سياسية قد تكون أهدافها وطنية أو مصلحيّة.
ففي حالة جبران باسيل لا تعكس مسيرته السياسية أي مبادئ روحية وأخلاقية، فهو استغل “تفاهم معراب” وأخد منه ما يريد ثم مسح توقيعه وانقلب عليه، وكانت صدمة “القوات” كبيرة، فهذا الرجل لا يؤمن بالشراكة، وقد اختلف مع معظم القوى السياسية في البلد، وكانت له تجارب “فتنوية” مع الجميع، ومواقفه تأتي من مصلحة ذاتية لا علاقة للسياسة والسيادة والوطن بها.
أما “القوات” فتعقد علاقات ممتازة مع الأحزاب والقوى المسيحية السيادية من “الأحرار” إلى “الكتائب” والشخصيات المستقلّة؛ وقد أبرمت مصالحة تاريخية مع تيار “المردة”، ورشّحت النائب ميشال معوض، لأنّ معايير التزامها التاريخي بالكِيان اللبناني أسمى من أي صغائر.
المعضلة في لبنان ليست في الأسماء كما يعتقد سيد بكركي اليوم، بل في المشروع، فبقاء رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية تحت قبضة محور الممانعة، أي بإمرة “حزب الله” وحلفائه، يعني التجديد لعهد ميشال عون وللأزمة ولسياسات الافقار والتهجير والتخريب؛ فلا فرق بين عون وفرنجية وباسيل، ومَن يقول العكس، عليه إعادة حساباته.
إنّ العودة إلى التسويات مع مَن يضع يده بيد الدويلة ولو ادّعى زوراً أنّه قادر على سحبها أو مقارعتها بنديّة، قد ولّت ولن تعود.
لا نقول ان بكركي لا تفهم في السياسة، بل هي مرجعية وطنيّة، إلا أن استقبال البطريرك للجميع واصغاءه الى بعض الطامحين والطامعين “المخربين” شيء وتنفيذ مطالبهم وتقديم يد النجاة لهم شيء آخر.
ولا نعتقد أن بكركي في وارد دعوة النواب المسيحيّين إلى لقاء معروف مسبقاً أنّه سينتهي كما بدأ، لأنّ قرار التعطيل موجود في حارة حريك، والانتخاب يجب أن يحصل في البرلمان، وبكركي يجب أن تبقى الصوت الصارخ دفاعاً عن ثوابت الكنيسة المارونية بقيام الدولة الفعلية السيدة وحدها على أرضها.
كما أن الانقسام العمودي في البلد هو بين فريقين سياسيّين يضمّ كل منهما نواباً من مختلف الطوائف، الأول لديه مرشح رئاسي ويضغط لانتخاب رئيس، والثاني يعرقل جلسات الانتخاب بسلاح الورقة البيضاء وتعطيل النصاب والرهان على الوقت وتعب اللبنانيين من الشغور لانتخاب رئيس ممانِع يُبقي لبنان في الانهيار. لذلك لا يجوز أن يكون لقاء بكركي المسيحي جسر عبور لهذا الرئيس “الممانع” أو رديفاً له لا حول ولا قوة ولا قرار في يده!