على افتراض أن مسار التفتيش عن رئيس جديد للجمهورية انطلاقًا من مواصفات محدّدة وواضحة المعالم بدأ يأخذ طابعًا جدّيًا، بعد تبنّي كل من الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله ترشيح سليمان فرنجية، فإن الساعين الجدّيين، سواء في الداخل أو الخارج، ينطلقون من تجربة لا تزال مفاعيلها السلبية عالقة في الأذهان، وهي تجربة ما سُمي في حينه “تسوية بيت الوسط”، التي هندسها كل من رئيس “التيار الوطني الحر” السيد جبران باسيل ومدير مكتب الرئيس سعد الحريري السيد نادر الحريري، والتي كانت تقوم على أساس واضح، وهو أن لا رئيس لحكومات “العهد العوني” سوى الرئيس الحريري.
إلاّ أن ما حصل في الواقع كان معاكسًا لما تمّ التوافق عليه، وطغت “الأنا الباسيلية” على ما عداها من تفاهمات وتسويات، التي انتهت بكشف رئيس تيار “المستقبل”، وقبل تعليق عمله السياسي، بأنه من المستحيل التعامل مع رئيسين للجمهورية في آن معًا، أي ميشال عون كرئيس منتخب، وجبران كرئيس ظلّ مكرّس بفعل الأمر الواقع.
وما عاناه سعد الحريري من هذه الازدواجية في رئاسة الجمهورية لمسه لمس اليد الرئيس نجيب ميقاتي المعروف عنه بأن صبره “أيوبي”، خلال ترؤسه آخر حكومة عهد عون، وخلال المسار الطويل والشاق من مفاوضات عقيمة لتشكيل حكومة “انقاذ ما يمكن إنقاذه”، وما واجهته من عراقيل كان يضعها باسيل، وما كان يحاول أن يفرضه من شروط “لا تركب على قوس قزح”، وهي شروط يمكن فهمها الآن من خلال ما يصدر عنه من مواقف ملتبسة، وأقّل ما يُقال عنها إنها تعطيلية بامتياز.
فـ”الثلث المعطّل”، وهو اسم على مسّمى، وكان يُستحسن تسميته “الثلث الباسيلي”، كان يريد أن يفرضه جبران في نهاية العهد ليضمن استمراره في إحكام قبضته على السلطة التنفيذية بما يتلاءم ومصالحه الشخصية، وقد يكون على رأسها “حصرم الرئاسة”.
ولكن صلابة مواقف الرئيس ميقاتي ومعرفته المسبقة بالنوايا المبيّتة حالت دون تحقيق هذا الحلم، الذي كان يراود “رئيس الظلّ”، ليلًا ونهارًا.
إذًا، فإن الساعين الجدّيين لإضاءة شمعة في عتمة الطريق المؤدي إلى قصر بعبدا يأخذون في الاعتبار هذه التجربة الفاشلة في إدارة شؤون البلاد، والتي كانت قائمة على مصالح شخصية بحتة، ويستندون إليها في أي مقاربة رئاسية مستقبلية، وذلك انطلاقًا من معادلات حسابية أو كيمائية محسوبة النتائج، والتي على أساسها يمكن التفتيش عن صيغة مقبولة ومتطابقة مع الواقع، بحيث يكون الحكم منسجمًا مع تطلعات أغلبية الشعب اللبناني، الذي يرفض في المطلق التوصّل إلى أي صيغة تفاهم ينتج عنها رئيس اللحظة الأخيرة، أو “رئيس كيف ما كان”، بحجّة الضغوطات الاقتصادية.
فلا رئيس أفضل ألف مرّة من “رئيس الصدفة” أو “رئيس الكيف ما كان”.
ما يريده الشعب، بعد أن يُسأل ويُسمع رأيه، هو “رئيس صُنع في لبنان”.
وهذا يعني في نظر الناس الطيّبين الساعين إلى رزقهم بشقّ النفس أن يكون رئيسًا للبنان، وليس رئيسًا على لبنان.
أن يكون رئيسًا لجميع اللبنانيين، وليس رئيسًا لفئة ضد فئات أخرى.
أن يكون رئيسًا يؤمن بالشراكة الوطنية، وأن يكون متفاهمًا مع رؤساء حكوماته المختارين وفق آلية الاستشارات النيابية الملزمة، وليس رئيس سلطة على جزيرة منعزلة.
هذا النوع من الرؤساء يتم التفتيش عنهم، وهم نقيض لتجربة سابقة لم تكن ناجحة.