أنهت جلسة مجلس الوزراء الاستثنائية التي عقدت الإثنين في السراي الحكومي، ما اصطلح على تسميتها بـ”أزمة التوقيت”، بعد “حفلة الجنون” التي أثارها قرار إرجاء بدء العمل بالتوقيت الصيفي، الذي لم يكن يهدف سوى لـ”إراحة الصائمين” خلال شهر رمضان، قبل أن يأخذ منحى طائفيًا يصحّ وصفه بـ”البغيض”، رغم أنّه لم يكن يفترض أن يسبّب أيّ ضرر لأيّ مكوّن لبنانيّ آخر، ولا سيما أنّه اتُخِذ مرارًا في السابق.
في جلسة الحكومة الاستثنائية، اتُخِذ القرار بالتراجع عن تدبير إرجاء العمل بالتوقيت الصيفي، الذي لم يكن “سابقة” على المستوى العملي، ولكنّه أحدث “سابقة” في طريقة التعاطي غير المسبوقة معه، والتي قد لا تكون بريئة، بعدما خلقت حالة “العصيان” التي أعلنها البعض، توقيتَين مغايرَين في بلد واحد، فاختار مجلس الوزراء “احتواء” المشهد، عبر “مواجهة الضخ الطائفي وإسكاته”، وفق ما قال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في كلمته.
لكن، أبعد من حلّ “مشكلة التوقيت”، التي اعتبرها كثيرون أزمة سياسيّة بامتياز، وقد أخذت أبعادًا طائفيّة، جاءت كلمة رئيس الحكومة في ختام جلسة مجلس الوزراء الاستثنائية لتحمل بين طيّاتها الكثير من “الرسائل” السياسية الحازمة، بعيدًا عن التكهّنات حول “اعتكاف” غير معلن، قال ميقاتي إنّه “أسهل” ما يمكن أن يقوم به، فماذا في مضمون هذه الرسائل الفعليّ؟ وهل تصل عمليًا إلى المعنيّين بها، ممّن استغلّوا التوقيت لتسجيل أهداف، قد تكون “وهمية”؟!
خلف سطور الكلمة
خلف سطور كلمة الرئيس نجيب ميقاتي، الكثير من الرسائل والمعاني، ومعها العِبَر والدلالات، التي تتقاطع عند وجود “استياء” لدى الرجل من المنحى الذي أخذته الأمور في الأيام الأخيرة، بعدما صُوّر مجرّد إرجاء العمل بالتوقيت الصيفي، لمراعاة الصائمين خلال شهر رمضان، وكأنّه “استهداف” لطائفة معيّنة، أو “مؤامرة” على مكوّن محدّد، وهو ما أوحت به أصلاً بعض المواقف التي بالغت في ردّة الفعل، لحدّ “الفصل” بين المناطق، بل “احتكار” العلم والتقدّم.
يظهر ذلك في حديث ميقاتي الذي بدأه بالتأكيد على أنّه لم يكن يومًا من هواة التحدّي والمناكفة، ولا من هواة التعدّي على مقامات ومرجعيات دينية أو زمنية والتطاول عليها، بل صاحب رغبة وإرادة في الحفاظ على البلاد، ومحاولة إخراجها من العوز والعزلة، ولعلّ حديثه عن “العزلة” معبّر هنا، خصوصًا أنّ هناك من خاف من “عزل” لبنان بسبب توقيت، متناسيًا كمّ الأزمات التي يتخبّط فيها البلد، والتي تنذر بعزله فعليًا، وعلى كلّ المستويات.
لكنّ “استياء” الرئيس ميقاتي يظهر أكثر في متن كلمته، حين يسأل عن “جدوى الاستمرار في تحمّل المسؤولية عمّن عجز عن تحمّلها بنفسه”، في إشارة إلى النخبة السياسية التي عجزت حتى عن وضع قائمة أسماء مرشحين للرئاسة، ولكن أيضًا حين يقول إنّه تحمّل “ما ناءت تحته الجبال من اتهامات وأضاليل وافتراءات”، وأنّه صمد وعانى بصمت، غير أنّه يضع اليوم الجميع أمام مسؤولياتهم، وهو ما ينطوي أيضًا على رسالة بالغة الدلالات.
هل تصل الرسائل؟
يقول الرئيس ميقاتي في كلمته إنّ المشكلة ليست قصة “ساعة شتوية أو صيفية”، ويشدّد على أنّ المسؤولية مشتركة ولا يمكن، ومن غير العدل أن تلقى على عاتق شخص أو مؤسسة ويقف الآخرون متفرجين او مزايدين. لعلّ هذا بالتحديد هو “بيت قصيد” الرسائل التي أراد إيصالها إلى المعنيّين، توازيًا مع تذكيره بأنّ المشكلة تكمن في الفراغ المستمرّ في الموقع الأول في الجمهورية، وهو ما لا يتحمّل شخصيًا المسؤولية عنه بأيّ شكل من الأشكال.
يقول العارفون إنّ الرئيس ميقاتي اختصر بكلامه هذا “لبّ المشكلة”، راميًا كرة “المسؤولية” في الملعب المناسب، فكلّ القوى التي تقاطعت على التصويب على الحكومة ورئيسها بسبب التوقيت، هي التي ترتكب بتبايناتها وخلافاتها، ورفضها التوافق بما يسمح بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، “الخطايا” التي تصلّ لحد “تعميق” الأزمات، ومنع “خارطة الإنقاذ” التي سبق أن وضعتها الحكومة للمفارقة، قبل أن توضع هي في “قفص الاتهام”.
يشير هؤلاء إلى أنّ “المعطّلين” يجب أن يتلقّفوا “الرسائل” التي وجّهها الرئيس نجيب ميقاتي، فتمامًا كما أنّ الاعتكاف عن جمع مجلس الوزراء هو أسهل ما كان يمكن لرئيس الحكومة أن يفعله، ليس خافيًا على أحد أنّ “توجيه” المشكلة باتجاه الحكومة هو “أسهل” ما يمكن للقوى السياسية والروحية والكتل النيابية أن تفعله، في حين أنّ القاصي والداني يدرك أنّ المسؤولية هي بالدرجة الأولى مسؤوليتها السياسية والأخلاقية، وأن الحل يبدأ بانتخاب الرئيس.
“اللهم اشهد أنّي قد بلّغت”. قالها الرئيس ميقاتي مرّتين، لا مرّة واحدة في ختام كلمته “الوجدانية” إلى اللبنانيين، بعد حديثه عن “الضخّ الطائفي” الذي برز في الأيام الأخيرة، ومقارنته بـ”الاستعصاء السياسي”.
لكنّ الأهم يبقى في “العبرة”، “عبرة” يجب أن يتلقّفها الجميع اليوم وليس غدًا، والأكيد، قبل فوات الأوان!