أعاد إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان باتّجاه الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة مشهد ما قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1975، حين كانت التنظيمات المسلّحة الفلسطينيّة تستخدم لبنان ساحة لتوجيه الضربات العسكريّة والرسائل للعدوّ الإسرائيليّ. وقد تزامن هذا التطوّر الأمنيّ في وقت تمرّ فيه البلاد بفراغ رئاسيّ، في ظلّ إنقسام نيابيّ حادّ بين مُطالب برئيسٍ يدعم “المقاومة” وأعمالها وأهدافها، وبين من يُريد رئيساً “سياديّاً” يُعالج موضوع السلاح الخارج عن سيطرة الدولة، وتطبيق القرارات الدوليّة واتّفاق الطائف.
وما يزيد مطالبة الأحزاب المسيحيّة المعارضة بشكل خاصّ بحلّ معضلة السلاح غير الشرعيّ، هو الخوف من إستمرار إستعمال لبنان كواجهة لتصفيّة الحسابات في المنطقة، أو الدوليّة، وجرّه إلى حروبٍ لا شأن له فيها، علماً أنّ كافة الأفرقاء في الداخل يتعاطفون مع القضيّة الفلسطينيّة. وقد شهدت الأشهر القليلة الماضيّة وحتّى اللحظة، إشكالات في المخيّمات بين تنظيمات وأحزاب فلسطينيّة، حيث هناك خشية من تفلّت الوضع الأمنيّ هناك،وتكرار سيناريو مخيّم نهر البارد مرّة جديدة.وفي حين تغيب سيادة الدولة داخل المخيّمات الفلسطينيّة، كان لافتاً أنّ التنظيمات أصبحت مُجهزة بأسلحة متطوّرة، مثل الصواريخ. ويرى مراقبون أنّ الخطر بأنّ يقوم “حزب الله” بتجهيز هؤلاء عسكريّاً، كيّ يقوموا بضرب أهدافٍ داخل العمق الإسرائيليّ، وبهذه الطريقة يكون ينأى بنفسه عن أيّ تطوّرٍ عسكريّ مع العدوّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ إطلاق الصواريخ يتكرّر كلّ فترة، عندما تكون هناك مواجهات فلسطينيّة – إسرائيليّة في المسجد الأقصى على سبيل المثال، أو حصار وحربٍ في غزة.ومع أنّ إسرائيل غالباً ما تُبادر إلى قصف المواقع التي أُطلقت منها الصواريخ، لا يستبعد المراقبون أنّ تقوم بضرب أهداف مثل البنى التحتيّة، لتحميل اللبنانيين مسؤوليّة عدم ضبط السلاح والحدود الجنوبيّة، ما قد يجرّ “الحزب” لحربٍ معها، على الرغم من أنّ هناك إجماعاً في الداخل والخارج على أنّ إسرائيل لا يُمكنها شنّ أيّ عمل عسكريٍّ، لأنّها مطوّقة من “حزب الله” والمقاومة الفلسطينيّة في غزة والضفة الغربيّة، مع إشتعال الإحتجاجات في تل أبيب، على اثر التعديلات القضائيّة التي لاقت معارضة قويّة لحكومة بنيامين نتنياهو.ومع هذه التطورّات الميدانيّة الجنوبيّة في الأسبوع الماضيّ، من المتوقّع أنّ تزداد المطالبة من قبل داعمي رئيس “حركة الإستقلال” النائب ميشال معوّض بانتخاب رئيسٍ “سياديّ”، لأنّه منذ الحرب على الإرهاب في سوريا والعراق، إضافة إلى الحرب في اليمن بين الحوثيين والدول الخليجيّة، قام “حزب الله” بالمشاركة بهذه الحروب، ما عرّض الدولة اللبنانيّة لمشاكل دبلوماسيّة مع أشقائها العرب والخليجيين، وعزل البلاد عن محيطها العربيّ، في وقتٍ يحتاج فيه اللبنانيون للدعم العربيّ، وخصوصاً الإستثمارات وضخّ الأموال اللازمة لاستقرار سعر صرف الدولار وإيجاد فرص العمل.وترى أوساط معارضة أنّ الرئيس “السياديّ” أصبح حاجة ملحّة للبنان، فلا يُمكن إنتخاب شخصيّة “ممانعة”، والسماح لأفرقاء بضرب العلاقات اللبنانيّة – العربيّة. وتقول إنّ الرئيس مهمّته السهر على سيادة لبنان، أيّ بسط سيطرة الدولة على كافة الأراضي اللبنانيّة ليس فقط من خلال الجيش أو قوى الأمن أو الدخول إلى المخيّمات الفلسطينيّة، وإنّما عبر وضع حدٍّ لظاهرة السلاح غير الشرعيّ التي تُهدّد قيام الدولة الحقيقيّة.وتُشير الأوساط إلى أنّ مشاكل البلاد السياسيّة سببها السلاح الذي يُهدّد إنجاز أيّ عمليّة ديمقراطيّة، كذلك، هناك خشية متزايدة من قبل أحزاب أخرى من هذا التهديد، وربما تلجأ إلى التسلّح، وخصوصاً بعد أحداث 7 أيّار من العام 2008، عندما اندلعت مواجهات عنيفة بين مناصرين لـ”الثنائيّ الشيعيّ” وآخرين من “المستقبل” والحزب “التقدميّ الإشتراكيّ”. وتُضيف الأوساط أنّ موضوع السلاح بات خطيراً على السلم الأهلي، وربما يجرّ إلى حربٍ أهليّة، فاشتباكات عين الرمانة والطيونة والشيّاح الأخيرة كانت دليلاً على أنّ كلّ جهّة مسلّحة تُشكّل عامل عدم إستقرار للبلاد.وتقول الأوساط إنّ أيّ رئيسٍ “ممانع” سيُغطّي هذا السلاح، وكلّ ما يقوم به “حزب الله” في الداخل والخارج، وعلى الحدود الجنوبيّة، فعلى الرغم من أنّ الضاحيّة الجنوبيّة لم تتبنَ مسؤوليّة إطلاق الصواريخ، إلّا أنّ الجنوب يُعتبر منطقة “المقاومة” العسكريّة، ولا شيء خفيّ عليها.ويعتبر مراقبون أنّه يصعب جدّاً إنتخاب رئيسٍ “سياديّ”، لأنّ هذا الأمر يعني حرباً مباشرة مع “حزب الله”، وأيّ تهديد لسلاحه سيجرّ البلاد إلى مواجهة في الشارع، ربما تكون أكثر خطورة من أحداث الـ2008 المؤسفة. ويُتابع المراقبون أنّ السبب الثاني الذي يقف عائقاً أمام إنتخاب هكذا رئيسٍ، على الرغم من الحاجة الماسّة إليه، كيّ يُعيد الشرعيّة كاملة للدولة، هو إختلاف أركان المعارضة في ما بينهم، فالبعض منهم يُدرك بالفعل خطورة التطرّق لموضوع السلاح، ويُريد التركيز في المرحلة المقبلة على معالجة الأوضاع الإقتصاديّة والمعيشيّة والماليّة.ويُذكّر المراقبون أنّ فريق الرابع عشر من آذار لم يستطع حتّى بعد فوزه بالأكثريّة النيابيّة سابقاً، من إيصال رئيسٍ “سياديّ”، وكانت التسويّة دائماً تفرض نفسها بعد الشغور الرئاسيّ أو بعد تدهوّر الوضع الأمنيّ. ويُضيف المراقبون أنّ التركيبة النيابيّة الحاليّة لا تسمح لـ”المعارضة” كما لـ”الثنائيّ الشيعيّ” بفرض أيّ مرشّح بالقوّة، ويقولون إنّ التسويّة أتية لا محالة، ولا يزال يتمّ طبخها بين فرنسا والسعوديّة وقطر ومصر والولايات المتّحدة الأميركيّة.