مع اقتراب نهاية شهر رمضان المبارك لا تزال أجواء الفرح تعمّ شوارع مدينة طرابلس رغم قسوة الظروف الاستثنائية التي تمرّ على البلاد بفعل تراكم الازمات، فكلّ الاستعدادات لاستقبال “عيد الفطر” تسير على قدم وساق. وفي زمن “القلّة” يأبى الطرابلسيون الاستسلام للضائقة المعيشية التي انعكست سلباً على عدد كبير من المواطنين، لكن التكافل الاجتماعي فيما بينهم نجح في “تمرير” الشهر الفضيل رغم الارتفاع الجنوني في الاسعار الذي تحكّم بشكل أو بآخر في “سُفرة” رمضان الا أنه فشل في تنغيص افراحهم.
أيام قليلة تفصلنا عن عيد الفطر، وشوارع المدينة تعجّ بالطرابلسيين، والعجلة التجارية تبدو منتعشة، رغم الضغوطات المالية في هذه المرحلة. ولعلّ مظاهر التحضيرات للعيد لا تبدو مستغربة، حيث أن هذه الحركة شهدتها طرابلس طيلة شهر رمضان، إذ إن الحجز لدى المطاعم للافطار او السحور يكون قبل 24 ساعة والا يأتيك الجواب “فوّلنا”.مما لا شكّ فيه أن عاصمة لبنان الثانية كانت على مدار سنوات طويلة مقصداً لكل المواطنين القادمين من كل المناطق الشمالية والذين اعتادوا ارتياد أسواقها ومطاعمها نظراً لتنوّع منتجاتها وأسعارها التي تعتبر مقبولة مقارنة مع باقي المناطق. الا أن هذا العام، عجّت مطاعم طرابلس باللبنانيين من كل المناطق ومختلف الطوائف، ذلك بسبب الاجواء الايجابية التي طغت على المدينة، سيّما على مستوى الليالي الرمضانية وسط احتفالات صوفية ورقص مولوي رائع، في ظلّ انضباط لافت للاستقرار والامن في منطقة تبقى فيها العيون ساهرة حتى أذان الفجر.ووسط هذه الظاهرة التي بدت مستغربة منذ بدء الازمة في لبنان، حيث بدا وكأن اللبنانيين يعيشون حالة غير مفهومة، وبصرف النظر عن أن اللبنانيين شعب يعشق الحياة، ويقاوم القهر بأسلحة الفرح، غير أن الازمة الاقتصادية الطاحنة وثقل المتاعب المالية يجعلك تعتقد لوهلة أن موسم رمضان والاعياد سيسجّل تراجعاً كبيراً هذا العام، لكنّ المفاجأة كانت على عكس التوقعات، حيث أن اكتظاظ المطاعم والاسواق في شهر رمضان يطرح علامات استفهام كبرى حول مدى جدية تأثير الازمة الحاصلة على الظروف الحياتية اليومية، سيما ان معظم الطرابلسيين لا يزالون يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلية في ظل انهيارها أمام الدولار الاميركي!لا إجابات صريحة على هذه التساؤلات، فربّما هي حالة من حالات الحنين الى “الزمن الجميل” زمن الـ1500، أو أمل كبير بأنها “ستُفرج”، أو حالة من إشغال النفس عن المصائب التي تهبط على المواطنين من كل حدب وصوب! جميعها تكهّنات لا تفيد بإجابات مقنعة، أو أقلّه مرضية، وإذا كانت التحويلات بالعملة الصعبة التي تصل الى عدد كبير من اللبنانيين عموماً والطرابلسيين خصوصاً من ذويهم في بلاد الاغتراب تساهم في حلّ أزماتهم المتراكمة، فأين سلّم الاولويات ما بين فواتير الكهرباء، والوقود والهواتف وتزايد الاقساط المدرسية والمواد الغذائية وغيرها من الالتزامات التي تكسر ظهر ابناء هذا الوطن المترنّح في الازمات؟ إضافة الى البطالة المستفحلة بعدما سرّحت العديد من المؤسسات والشركات عدداً كبيراً من موظفيها منذ بداية انتشار جائحة كورونا وحتى تصاعد الازمة الاقتصادية وتدهور البلاد.”استكترتوا علينا نفرح”؟ هكذا غالباً يكون الصدّ اللطيف في كل الاجابات، علماً أن “النقّ” لا يتوقّف على مدار شهور السنة من نفس الطبقة التي لا تزال تحافظ على مستوى مقبول من العيش الكريم في مقابل تراجع الطبقة الوسطى التي كانت تشكّل غالبية اللبنانيين والتي باتت الاكثر تضرراً اليوم من الوضع القائم، إذ أوردت بعض الدراسات أن المجتمع اللبناني اصبح يتكون من طبقتين؛ الارستقراطية والفقيرة! والاخيرة، هي الطبقة التي تعضّ تعففاً على الجرح بأسنان الكرامة.و بالحديث عن الطبقات الاجتماعية، لا يمكن الاغفال عن العمل الخيري الذي يزدهر في شهر رمضان، حيث تتنافس العديد من الجمعيات في طرابلس لإطلاق حملات لجمع المساعدات وتأمين الحصص الغذائية وتوزيعها على العائلات المحتاجة، وتتركز هذه المساعدات على “إفطار صائم” طيلة شهر رمضان بهدف تخفيف الاعباء عن هؤلاء الذين يتألمون حاجة في هذه الايام العصيبة.من “باب الرمل،” وهو واحد من أحياء طرابلس الشعبية القديمة حيث يتجمّع الناس في رمضان ينتظرون الكعكة الساخنة للسحور، وصولاً الى شارع “الضم والفرز” حيث انتشرت مجموعة من المقاهي والمطاعم في السنوات العشر الاخيرة في إحدى مناطق طرابلس الجديدة والتي تقدّم أشهى الاطباق الشرقية والغربية على الافطار و”السفرة” العربية على السحور، اماكن تجعلك تقول مرغماً “الدني بخير”. ولعلّ “دار القمر” و”الحج علي” هما من أهم وأشهر المطاعم في المنطقة على مستوى النخبة، والتي تعتبر أماكن مثالية لإفطار مميز لجهة جودة الطعام والحلويات اللذيذة، ناهيك عن الخدمة الراقية وحسن المعاملة. هنا، تتجمهر الناس على المغرب والسحور، بين الاهل الاصدقاء، وسط أجواء من الفرح والبهجة وعلى وقع الأناشيد الدينية ليأكلوا “لقمة” ويتبادلوا اطراف الحديث عن “الخنقة” الاقتصادية!يرى بعض اصحاب المطاعم أنهم عملوا على إبقاء هذا القطاع على قيد الحياة “بطلوع الروح”، وذلك لعدم وجود سيولة كافية بيد المواطن لإنفاقها على ما يعتبر رفاهية، وأن الحركة التي تشهدها المطاعم خلال شهر رمضان تعود الى أن الاسعار لا تزال مقبولة نسبة للوضع الاقتصادي الراهن، وكل الافطارات والعزائم العائلية التي تقام لا تعود عليهم بالربح الوفير، نسبة الى الارتفاع الهستيري بسعر الغاز، وفاتورة الكهرباء ومجمل المواد الاولية والسلع الاساسية.وبالعودة الى مظاهر “الحياة” وسط وحش الموت البطيء، وأجواء المطاعم والاسواق والمولات، و”الارغيلة” التي باتت تكلّف المدخّن قرابة المليون ليرة، والتي تعتبر متنفساً ضرورياً وأساسياً في جلسات المقاهي بعد الافطار، حتى الشعبية منها، فهي دخلت أيضاً ضمن المصاريف اليومية للطرابلسيين الذين يدفعون ثمنها مهما بلغ من دون اعتراض، يجوز السؤال “كيف”؟ كيف لا يزال هذا الاقبال مستمراً ومستقراً؟انه شهر الخير والبركة، شهر رمضان الذي يبعث الحياة في طرابلس، حيث تفيض المساجد بالمصليّن، وتزدحم الأسواق وتقام موائد الإفطار وينسى كل ذي همّ همّه. لعلّها رحمة من الله ورزق من السماء، لعلّه الصبر والامل.. لعلّها حالة انكار مذهل!