كتب جان فغالي في” نداء الوطن”: أسبوعان مرَّا على الذكرى السنوية الثامنة والأربعين لحادثة بوسطة عين الرمانة التي شكّلت الشرارة لاندلاع الحرب في لبنان، بين جزء من اللبنانيين والفلسطينيين الذين «انتصر» لهم لبنانيون آخرون، فكانت حرباً لبنانية – فلسطينية، وفي جانب آخر، حرباً لبنانية – لبنانية.بعد ثمانية وأربعين عاماً على اندلاع الحرب، وبعد أسبوعين على الذكرى، كل عناصر وجود «بوسطة» قائمة، لا بل هناك أكثر من «بوسطة» في أكثر من منطقة، وهذه المرة ستكون أقسى وأصعب وأشرس، خصوصاً إذا دخلت عليها دولٌ وأجهزة ومنظمات وهيئات دولية، فتتفلت من أيادي اللبنانيين، ويدخل البلد في متاهة حرب يُعرَف كيف تبدأ ولا يُعرَف كيف تنتهي. بعد نصف قرن على «حرب البوسطة»، أميط اللثام عن حقائق كشفتها وثائق ووردت في كتب لمسؤولين لبنانيين وفلسطينيين عايشوا تلك المرحلة من مواقع مؤثِّرة وفاعلة، الجامع المشترك بين ما كُشِف من وثائق وما ورد في الكتب، أنّ حرب لبنان اندلعت لتشكِّل «قنابل دخانية» لحجب الرؤية عن تمرير تسويات في المنطقة، فالتوطين لم يكن مجرد شعار ولا مجرَّد فزاعة، بل كان حقيقة قائمة عملت له دول عربية وغير عربية، وحين اتخِذ قرار بمواجهته، كان جزء من السلطة اللبنانية متقاعساً ومتخاذِلاً، إنْ لم نقُل «متآمِراً». مواجهة التوطين جاءت من طرفٍ لبناني واحد، لكن إسقاطه كان لمصلحة كل الأطراف اللبنانيين. اليوم، يكاد التاريخ أن يعيد نفسه: مواجهة النزوح السوري تتم من طرف لبناني واحد، لكن إسقاط مفاعيله ستكون لمصلحة كل الأطراف اللبنانيين. مفاعيل النزوح السوري أخطر بكثير من مفاعيل اللجوء الفلسطيني: حين لجأ الفلسطينيون إلى لبنان، لم يكن العدد يقاس سوى بعشرات الآلاف، اليوم النزوح السوري تجاوز المليونين والمئتي ألف نازح، والحبل على الجرار. الهجرة الفلسطينية من فلسطين كانت أشبه بـ»قلعِهِم»من بيوتهم وقراهم، ولم يتركوا طوعاً. مقاربة ملف النازحين السوريين مختلفة تماماً، النازح السوري «يتمتَّع» بما يلي:هو يقرِّر متى يصبح نازحاً! مع بقائه مواطناً سورياً قادراً على التنقل بين لبنان وسوريا ساعة يشاء. فالنزوح السوري إلى لبنان بدأ عام 2011، أي منذ إثني عشر عاماً، بعد هذه السنوات، وعلى رغم توقف المعارك في تسعين في المئة من الأراضي السورية، بإمكان أي سوري أن يصل إلى لبنان ويتخذ صفة نازح، ويستفيد من كل العطاءات والتسهيلات التي تقدَّم للسوريين، فيما اللبناني محرومٌ من الحد الأدنى من سبل العيش. حين انفجرت الحرب في لبنان من خلال «شرارة بوسطة عين الرمانة»، كان الوضع اللبناني في ذروة الانتعاش النقدي والاقتصادي، لم يكن الدولار الأميركي يتجاوز ليرتين وربع ليرة لبنانية، وكان لبنان «يُصدِّر» كهرباء إلى سوريا، ولم يكن اللبناني يعرف شيئاً اسمه المولِّدات. الدولار تجاوز هذا الشهر المئة والأربعين ألف ليرة قبل أن يتراجع، ربما اصطناعياً، إلى ما دون المئة ألف ليرة، الكهرباء في حال انعدام، والأوضاع الاقتصادية والصحية في حالٍ يُرثى لها، وفوق ذلك هناك عبء أكثر من مليونَي نازح سوري… ألا تكفي هذه المعطيات لتولِّد «بوسطة عين الرمانة» في أكثر من منطقة؟ مع التنبه إلى إمكان اندلاع حربٍ جديدة، على المعنيين التفتيش عما إذا كانت هناك تسوية جديدة في المنطقة، على غرار ما كان يُطبَخ في ربيع 1975، وما «البوسطات» المتنقِّلة سوى مشاريع قنابل دخانية للتعمية على ما هو آتٍ من تسويات.