كتب المطران كيرلس بسترس في” النهار”: يسألني بعضهم: ما هي توقعاتكَ بالنسبة إلى مستقبل المسيحيّة في لبنان: هل أنت متفائلٌ أم متشائم؟ أُجيبهم أنّ المسيحيَّ ليس متفائلاً ولا متشائمًا، إنّه مؤمن: مؤمنٌ بالله ومؤمنٌ بالإنسان المخلوق على صورة الله. الحماقة كلُّ الحماقة أن يدَّعيَ الإنسان معرفةَ المستقبَل. المستقبَل هو بين يدي الإنسان، فهو الذي يصنعه، ويصنعه إمّا انطلاقًا من إيمانه بالله ومن إنسانيّته فيملأ الأرض محبَّةً وسلامًا، وإمّا انطلاقًا من غرائزه الحيوانيّة فيملأ الأرضَ دمًا ودمارًا. والإيمان يتطلَّب عمَلَيْن متلازمَيْن: عملَ الله وعملَ الإنسان. فعندما أرسل السيِّدُ المسيحُ القائمُ من بين الأموات تلاميذَه الاثنَيْ عشرَ قائلاً لهم: “اذهبوا وتلمذوا جميعَ الأمم، وعَمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعَلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به”، ثمَّ أضاف: “وهاءَنذا معكم كلَّ الأيّام إلى انقضاء الدهر” (متى 18:28-20)، هل تساءل التلاميذ إن كان يجب عليهم أن يكونوا متفائلين أم متشائمين إزاءَ هذه المهمَّة التي تبدو مستحيلة: اثنا عشرَ تلميذًا لتلمذة جميع الأمم؟ لقد انطلقوا للرسالة يملأ قلوبَهم الإيمانُ بأنّ يسوعَ سيكون معهم “كلَّ الأيّام إلى انقضاء الدهر”، وعزمُهم على أن يُتِمُّوا الرسالةَ التي عهِد بها إليهم بحسب روحه التي هي روحُ محبّةٍ وتجرُّدٍ عن الأنانيّة حتّى الموت، موت الصليب.
يقول المتشائمون إنّ الإحصاءات تدلُّ على أنّ عددَ المسيحيّين قد تناقص كثيرًا منذ إنشاء دولة لبنان الكبير. لكنَّ الإحصاءات غير دقيقة، ولا أحدَ يعرف عددَ المسيحيّين المغتربين المنتشرين في مختلف بلدان العالم. وهؤلاء يُشكِّلون دعمًا كبيرًا للبنان، ولا سيّما في ما يعاني اليوم من أزماتٍ اقتصاديّةٍ وماليّة. ومهما يكنْ من أمر أعداد المسيحيّين في لبنان وفي الاغتراب، فالمسيحيّة لا ينبغي أن تُقاسَ بالعدد، بل بما تحمله في طيّاتها من روحانيّةٍ دينيّةٍ وثقافةٍ إنسانيّةٍ وحضارةٍ بشريّة. المسيحيّون هم من هذا العالَم، ومصيرُهم متعلِّقٌ بكيفيّة تصرُّفهم في هذا العالَم. لقد أوصاهم السيِّد المسيح بأن يكونوا في العالَم النورَ والملحَ والخميرة الصالحة. تلك هي مسؤوليّةٌ خطيرةٌ ألقاها الربُّ على عاتقهم. فإذا قاموا بها كمؤمنين متأصِّلين في فكر المسيح وممتلئين من روحه القدوس، فلا خوفَ على مستقبلهم. أمّا إذا تصرَّفوا بطريقةٍ مناقضةٍ لفكر المسيح ولروحه القدوس، فلا مستقبَل لهم، ولا فائدةَ من وجودهم.
كتب بولس الرسول للغلاطيّين: “كونوا بالمحبّة خدّامًا بعضُكم لبعض. لأنّ الناموسَ كلَّه يُتمَّم في هذه الوصيّة الواحدة: أحببْ قريبَكَ كنفسكَ” (غلاطية 13:5-14). مصير المسيحيّة في لبنان يتعلَّقُ بمحبّة المسيحيّين بعضهم لبعض. تدلُّ الإحصاءات على أنَّ عدد المسيحيّين قد تضاءل بنوعٍ خاصٍّ في أثناء الحرب الأهليّة إمّا بالهجرة وإمّا بالقتل، عندما انقسم المسيحيّون بعضُهم على بعض وراحوا يتقاتلون طمعًا في السلطة والسيطرة على الساحة المسيحيّة. فرأينا إخوةً من الأسرة الواحدة قد انقسموا، فانتمى كلٌّ واحدٍ منهم إلى حزبٍ، وراحوا يحاربون بعضهم بعضًا. ومن المشاهد المؤلمة التي لا يزال يدمع لها قلبي احتفالي في الرتبة عينها، في أثناء الحرب الأهليّة في السبعينات من القرن الماضي، بجنّاز شقيقَيْن انتميا إلى فريقَيْن مسيحيَّيْن متخاصمَيْن وتوفّيا في معركةٍ بينهما. فلِمَنْ يسألني: ما هي توقُّعاتكَ بالنسبة إلى مستقبل المسيحيّة في لبنان؟ ليس لي جوابٌ إلاّ قول بولس الرسول: “إذا كنتم لا تزالون تنهشون وتأكلون بعضُكم بعضًا فاحذروا أن تُفنوا بعضُكم بعضًا” (غلاطية 15:5). في هذه الحالة لا مستقبلَ للمسيحيّة في لبنان، وحينئذٍ ينتهي لبنان المسيحيّ.