أواخر عام 2011، كان من الواضح أنّ العديد من الدول العربية كانت تخطّط لحقبة ما بعد الأسد، عندما انطلقت إنتفاضة شعبية واسعة، في غالبية المحافظات السورية بصورة سلميّة ومدنيّة، بعيدة كلّ البعد عن كلّ الأشكال العنفية والتخريبية، مطالبة بهامش من الحرية، وإصلاحات جذرية في بنية النظام وأساليبه التطبيقية.
وقتها، راهنت غالبية الدول العربية، وبعض العواصم الغربية، على أنّ الأمور متجهة نحو إسقاط نظام بشار الأسد، خصوصاً وأنّ نخباً من المعارضة السورية قد شرعت تحضّر متطلبات ومرحلة ما بعد سقوط النظام ومقتضياتها.
إلّا أنّ التطورات والأحداث المتسارعة على الساحة السورية، من خلال دخول دول ومحاور متناقضة ومتصارعة على خط الأحداث الداخلية، موزّعة بين داعم لصمود النظام، ومؤازر لقوى المعارضة، جعل من سوريا ساحة مفتوحة للصراعات العسكرية بينها.
وقوبلت وقتذاك الحركة الاحتجاجية، بحملة قمع وحشية ضدّ المتظاهرين السوريين المطالبين بالديموقراطية، وتعامل النظام مع الاحتجاجات أمنياً، وليس استيعابياً من خلال تحقيق المطالب والانفتاح والتحاور مع النخب المعارضة، قبل “شيطنتها” وإدخال الجماعات الارهابية “المتأسلمة”، ما أخذ الأمور إلى أمكنة ورهانات وأجندات، لا علاقة لها بمطالب الانتفاضة، إلّا من زاوية استغلالها وتوظيفها خدمة لمحركي ما عرف بـ “الجماعات التكفيرية”، الأمر الذي جعل الساحة السورية مستباحة أمام شتى التدخلات الخارجية، وحاضنة لصراعات دموية عنيفة بين أصوليّتين إسلاميّتين سنية وشيعية، وباتت لكلّ منهما ميليشياتها المحلية، ما أدخل سوريا في حرب تدميرية معقدة، تداخلت فيها العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية، قسمتها إلى مناطق نفوذ خاضعة للدول التي أقحمت نفسها فيها، بين مؤيد ومنقذ للنظام، الذي لم يتوانَ عن ارتكاب الفظائع، مستخدماً القصف العشوائي بالبراميل المتفجرة والغازات السامة، وبين مناوئ له.
تلك التطورات، دفعت غالبية الدول العربية إلى قطع علاقاتها بدمشق، وتجميد عضويتها في جامعة الدول العربية، ما دفع الرئيس بشار الأسد الى الارتماء أكثر فأكثر في أحضان إيران ونظامها الملالي إزاء سيطرة الميليشيات المعارضة على مدن واسعة من سوريا.
أما العام 2015 فقد كان مفصلياً في مسار الأحداث السورية، عندما تدخّلت روسيا عسكرياً، مغيّرة مسار الحرب الأهلية الدموية لمصلحة النظام، بعدما فشلت إيران وميليشياتها في ذلك.
هذا التحوّل، دفع الدول المجاورة لسوريا، وإستطراداً الدول العربية الى التفكير جدياً، في تغيير موقفها من الأسد، خصوصاً بعد تلكؤ المجتمع الغربي في إسقاطه، مكتفياً برؤية سوريا تُدمر، وشعبها إما يُباد أو يهجر، بعد تمدد نفوذ إيران في داخلها، حتى شكّل منصة لـ “الحرس الثوري” للإنطلاق منها في تدخّلها في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، ضمن استراتيجيتها بإقامة “الهلال الفارسي”.
كان ذلك بمثابة تغيير للعبة بالنسبة الى الدول العربية، التي بدأت تواجه تهديداً لأمنها القومي، خصوصاً مع تنامي القدرات العسكرية للحوثيين في اليمن، بدعم عسكري ومالي غير محدود من إيران، لزعزعة إستقرار دول الخليج العربي.
أمام هذه المستجدات، ووسط الاصرار الأميركي على الانكفاء عن المنطقة، بدأت الدول العربية تعيد ترتيب علاقاتها مع روسيا، للإفادة من نفوذها على إيران لممارسة الضغط عليها، وفي وقت لاحق مع الصين الطامحة الى أن يكون لها حضور في الشرق الأوسط، في إطار سياستها الهادئة والصامتة بفرض نفسها قوة عالمية عظيمة منافسة للولايات المتحدة الأميركية.
منذ ذلك الوقت، بدأت مرحلة جديدة من طريقة تفكير عدد من الدول العربية تجاه نظام الأسد، مع القناعة بضرورة إعادة سوريا إلى الحضن العربي، خصوصاً مع إبتعاد المجتمع الدولي إلى حد كبير، ما تسبب بدفع المنطقة أثماناً باهظة، في ضوء إستمرار الأزمة السورية.
هذا المنحى في تطور الأحداث، هيّأ الظروف بالتطبيع التدريجي للعلاقات بين الدول العربية وسوريا. فخلال السنتين الماضيتين تتالت مؤشرات التقارب بين دمشق وعواصم عدة، بدأتها أبو ظبي التي أعادت علاقاتها الديبلوماسية.
إلا أنّه وعقب الزلزال المميت الذي ضرب سوريا وتركيا في 6 شباط الماضي، تسارعت وتيرة المبادرات لإعادة العلاقات العربية مع سوريا.
وفي الأسابيع الأخيرة، عكست المملكة العربية السعودية ذات الثقل الإقليمي، موقفها من حكومة الأسد، ودفعت جيرانها إلى أن يحذوا حذوها. فالمملكة الحريصة على الأمن القومي العربي، التي تسعى إلى خروج الدول العربية من أزماتها، فتحت الباب من أجل تقديم رؤية عربية مختلفة عما كان سائداً.
وإنطلاقاً من هذا الحرص، وضعت المملكة رؤية عربية مشتركة للوضع في سوريا وكيفية التعاطي مع هذا الملف الشائك، الذي يستلزم حواراً مع دمشق، بدأ سريعاً مع الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان والتي كسرت الجليد المحيط بعلاقات دمشق العربية.
ولكن هذا الأمر يحتاج إلى أن تقطع القيادة السورية مسافة معتبرة لملاقاة الجهود العربية في منتصف الطريق، خصوصاً وأن هناك عدة دول عربية لا تزال رافضة فكرة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، من دون أن يكون هناك أي تغيير سياسي أو ميداني على الأرض، وتطرح ضرورة تقديم النظام في دمشق مبادرات، مثل إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن المناطق المحاصرة، وعدم تنفيذ العمليات العسكرية في مناطق وجود المعارضة في الشمال السوري.
اليد العربية ممدودة إلى سوريا، وقطعت الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية شوطاً كبيراً باتجاهها، ولكن عليها بذل كثير من الجهد لتلاقي تلك الجهود.
فهل يقدم النظام السوري الضمانات التي يمكن البناء عليها، من خلال تقديم خريطة طريق للتعامل مع المعارضة والإفراج عن المعتقلين في السجون، وغيرها من المتطلبات السياسية والانسانية، حتى تستكمل الجهود العربية لاعادة سوريا إلى موقعها العربي الطبيعي؟