في بلد أصبح أكثر من ثمانين في المئة من سكانه تحت خط الفقر، وفقد فيه عشرات الآلاف وظائفهم، بات اللبنانيون بمعظمهم عاجزين عن تأمين الحدّ الأدنى من احتياجاتهم الرئيسية وحُرموا رفاهية السلع الكمالية. وفي وقتٍ ارتفعت أسعار الكتب بشكل جنوني، تشكّل المكتبات العامة متنفساً وبديلاً فعالاً للقرّاء، حيث ازداد الإقبال عليها بمعدلات قياسية، خصوصاً وأنّ الكتب الرقمية فشلت في هزيمة تلك الورقية، الّا أنها تكافح اليوم لإعادة وصل الشباب اللبناني بالكتاب.
بحسب الإحصاءات الأخيرة لوزارة الثقافة، يوجد نحو 120 مكتبة عامة موزّعة على مختلف الأراضي اللبنانية، ولكن مع الوضع الاقتصادي الذي نشهده منذ ثلاث سنوات تأثر الكثير منها وربما أقفل بعضها لصعوبة الاستمرار كونها تُدار من قبل البلديات العاجزة تقريباً مع انهيار العملة.جولة بين المكتباتبعيداً عن الكتب الرقمية والأجواء الإلكترونية التي فشلت في الاستيلاء على العالم الورقي ومقرات المكتبات التي اعتدناها منذ الصغر، وبهدف الاطلاع أكثر على حركة الرواد ولمس الواقع خارج بيروت، كانت هناك جولة لـ”نداء الوطن” على عدد من المكتبات العامة لتشكّل “المكتبة الوطنية” في بعقلين محطتنا الأولى.تحتضن البلدة في قضاء الشوف أكبر مكتبة في لبنان وتضم ما يزيد عن الـ200 ألف كتاب والـ300 ألف مطبوعة، وتعود إلى الحقبة العثمانية، عندما كانت قصراً تمّ تشييده في عهد السلطان عبد الحميد الثاني العام 1897، ثم تحوّلت عبر السنين محكمة ثم مركزاً للبلدية فسجناً، قبل أن يتم ترميمها وتحويلها إلى مكتبة بطلبٍ من سكان البلدة.وأكد مدير المكتبة غازي صعب أنها تشهد تصاعداً غير مسبوق منذ العام 2021 في كثافة الزيارات خصوصاً من الفئة الشبابية التي تشكّل 65 في المئة من روّادها حالياً. وقال: “شهدنا استعارة 26 ألف كتاب العام 2021 و22 ألفاً عام 2022، والأرقام هذا العام إلى ارتفاع”.وأشار إلى أن المكتبة تعتمد نظام إعارة خارجية يسمح لأي شخص كان من مختلف أنحاء لبنان باستعارة الكتاب بشكل مجاني لمدة 15 يوماً قابلة للتجديد، موضحاً أنه “بات للمكتبة الوطنية أخيراً مسرح يسمح لها باستقبال نشاطات يعود ريعها لصيانة المبنى والكتب وتأمين حاجياتها وإنارتها. وها هي تثابر رغم الأزمة الحالية على المضي قدماً في رسالتها حيث تخطى عدد نشاطاتها هذا العام الـ245 نشاطاً من توقيع وكتب وورش عمل وغيرها. كذلك، تحفل أجندتها بأحداث ونشاطات لا تُحصى تستمر حتى نهاية آب المقبل”.المحظة الثانية كانت في مكتبة “السيد محمد حسين فضل الله العامة” في حارة حريك التي افتتحها “المركز الإسلامي الثقافي” التّابع لجمعية “المبرات الخيريّة” في العام 2004، وهي غنيّة بالمصادر والمراجع العلميّة المتنوّعة وتحتوي على أكثر من 120 ألف عنوان باللغات الثلاثة العربية والإنكليزية والفرنسية، بمختلف حقول المعرفة والعلوم.وتتكوّن المكتبة من طابقَين يتوزعان على مساحة 1500م2 تقريباً، وقد صُنّفت كُتبها ورُتّبت على الرفوف بحسب المواضيع ووفقاً لنظام “ديوي العشري” العالمي المعتمد عالمياً في كل المكتبات العامة، ما يُسهل عملية إعارة واسترجاع الكتب.أمينة المكتبة حنان رسلان أكدت أنّ الحضور يستمر بالارتفاع بوتيرة عالية، من كل الفئات العمرية وخصوصاً الطلاب، من بيروت وكل لبنان بحثاً عن مصادر المعلومات واستعارة الكتب الشيّقة والمفيدة. وقالت إنّ: “المكتبة اختتمت أخيراً أسبوع المطالعة بنجاح، وتواظب الآن على تنظيم قراءات قصصية ومسرح لدمى الأطفال وورش عمل أسبوعية”.أما عن المعاناة في مهمة الاستمرار، فتقول رسلان إنّ “رواتب الموظفين تُدفع من قبل جمعية “المبرات الخيرية”، إلا أنه يبقى الكثير من الصعوبات لتتعامل معها المكتبة وتواجهها بدءاً من الصيانة مروراً بالكهرباء والمصاريف اليومية”، مشيرةً إلى أن “إدارة المكتبة قلصت الدوام جراء الأزمة وفرضت رسماً نصف سنوي على المشتركين مقداره 500 ألف ليرة لبنانية (بعدما كان 50 ألفاً سابقاً)، ومن خلاله يستطيع الشخص استعارة كتابَين لمدة أسبوعَين”.ولفتت إلى أن أعمال الصيانة والمصاريف يتم تمويلها من تأجير القاعات التابعة للمكتبة ومن التصوير الورقي فيها.أما “مركز المطالعة والتنشيط الثقافي” Clac في برجا، الذي افتُتح العام الماضي، فأكدت لنا مؤسسة Amis Clac زينب حمية أنه يشهد حركة كبيرة وكثيفة خصوصاً في صفوف الأطفال والطلاب. ويضمّ المركز روايات بمختلف اللغات وكتباً متنوعة بين السياسة والتاريخ وعلم النفس وغيرها.وقالت: “هنا تُعار الكتب مجاناً بمعدل 3 كتب لمدة 3 أسابيع. لكن المركز يكافح ويعاني مع غياب رواتب الموظفين الذين باتوا يعملون كمتطوّعين”.في مدينة طرابلس اختتمت الجولة، في مبنى أثري يعود تأسيسه إلى أكثر من 100 عام، ومكتبة افتُتحت منذ أكثر من 50 عاماً. وتضمّ مكتبة “السائح” كنزاً تاريخياً من الكتب بمختلف أنواعها، وثروة ثقافية من حوالى 120 ألف عنوان. إلا أنها تعرّضت للحرق والتخريب العام 2014، فخسرت ما يُقارب الـ25 في المئة من عدد الكتب فيها. ثم أُعيد ترميمها عام 2015، وأُعيد معها بناء الثروة الثقافية في داخلها.وبابتسامة المنتصر والمناضل، وبهيبة الثقافي الذي لا يستسلم، يستقبلك الأب إبراهيم سروج كاهن الرعية الأرثوذكسية ومؤسّس المكتبة العريقة بالقول: “لن نستسلم في حربنا الثقافية فنحن نفتح بشكل يومي وننتظر الكهرباء لاستقبال زوارنا”، مضيفاً أنّ “حركة الإقبال كثيفة، وأكثر من يزور المكتبة هم جيل الشباب والأطفال برفقة أهاليهم بحثاً عن كتب تُغني بحوثهم المدرسية أو فضولهم الثقافي”.