بعد تولّيه حاكمية مصرف لبنان على مدى 30 عاماً، يخرج رياض سلامة من المركزي في تموز المقبل، إلّا إذا حصل تطوّرٌ قضائي في الفترة الفاصلة عن نهاية ولايته، لجهة تنفيذ مذكّرة التوقيف الصادرة عن الانتربول بحقّه، أو في حال تنحّى من تلقاء نفسه، وهو أمر مستبعد. على رغم أنّ مصيرَه لا يخلو من التشويق، وهو الرجل المصرفي الذي حاز لقب أفضلَ حاكم مركزي في العالم مرّات عدّة، وربما أكثر من حاز أوسمة شرف وجوائز تكريمية في تاريخه العملي من قبل منظّمات مصرفيّة دوليّة، قبل أن تسلط الاضواء عليه قضائيا، لكن ما يقلق اللبنانيين ليس نهاية الحاكم، بل مصير عملتهم وودائعهم، ومجمل الوضع المالي والإقتصادي في مرحلة ما بعد سلامة.
السؤال الأكثر تداولًا بين الناس: كيف سيكون عليه الدولار بعد رحيل سلامة؟ هل يتفلّت من كلّ الضوابط ويحلّق من جديد إلى سقوف غير محدّدة بالتوازي مع إطالة أمد الفراغ الرئاسي ؟ أم يواصل استقراره النسبي ما دون المئة ؟
مشهدية الغموض حيال من سيخلف سلامة، وكيف سيكون وضع البلد في حينه، تجعل الإجابة على هذا السؤال غير حاسمة. الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود يلفت في حديث لـ “لبنان 24” إلى أنّ وضعيّة الدولار بعد رحيل سلامة مرتبطة بأكثر من معطى، وتتبدل بحسب الواقع في حينه “في حال بقي الفراغ قائمًا في موقع رئاسة الجمهورية، وتسلّم النائب الأول للحاكم وسيم منصوري سيكون هناك وضع معين، يختلف عنه في حال استقال منصوري، والحمل لن يكون سهلًا. بالمقابل في حال تمّ انتخاب رئيس للجمهورية وتعيين حاكم جديد يتبّدل الجو، ولكن الأمر مرتبط كذلك بشخصية الحاكم الجديد. لذلك لا يمكن التكهن ببورصة الدولار بعد رحيل سلامة”.
أضاف حمود “ما استطيع أن أؤكّده أنّ سلامة سيترك الحاكميّة محافظًا على الدولار ما دون المئة ألف ليرة، وهو يعي تمامًا أنّ هناك كرة نار سيتلقّفها من يخلفه. والإستقرار النسبي الذي نشهده حاليًا في سعر الصرف ليس من دون كلفة وخسائر، بل هو إجراء مغطّى من قبل الحكومة. لكن وفق مقاربتي التي أكررها دائمًا، اتجاه الدولار صعودًا للأسف، وآمل أن أكون مخطئًا”.
لا مؤشرات حيال انفراج سياسي وشيك يقود إلى انتخاب رئيس وتأليف حكومة في الفترة الفاصلة عن نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان. بظل المراوحة في الملف الرئاسي، هليساهم التزامن بين رحيل سلامة وموسم السياحة باستقرار الدولار انطلاقًا من المردود السياحي المتوقع؟عاملان يصبّان في خانة الإيجابية في معادلة خفض الطلب على الدولار، الأول تحوّل البلد أكثر نحو الدولرة، ما يمكّن التجار من استيراد حاجياتهم من خلال إيراداتهم بالدولار، ومن دون الحاجة لطلبه ودفع ليرة مقابله، وفق ما يلفت حمود، والثاني إيرادات السياحة بالعملة الصعبة “إنما السياحة وغيرها ليست كافية لتحقّق توازن في ميزان المدفوعات، لاسيّما وأنّ السوق يُثبت وجود تضخم، بدليل أنّ الأسعار بالدولار كانت أرحم بكثير عام 2021 مما هي عليه اليوم، وهناك تضخّم خارجي وارتفاع في أسعار السلع عالميًا، مما يعني أنّ نسبة احتياجاتنا من الدولار ارتفعت لنفس المشتريات”.ماذا لو حصل انفراج سياسي بانتخاب رئيس في الأسابيع المقبلة، هل ينسحب انفراجًا ماليًا ينعكس على مسار الدولار؟”عندها سأجري تقييمًا للوضع بناءً على المعطيات” يقول حمود، فالإستقرار في المؤسسات الدستورية على جانب كبير من الأهمية، لكنه ليس كافيًا، وستبقى هناك مشكلتان أساسيتان، الأولى مصير أموال المودعين، والمقاربة حيالها تقود إلى المشكلة الثانية المتعلقة بالقطاع المصرفي وإعادة ترميم الثقة به. بالتالي انتخاب رئيس وتأليف حكومة من شأنهما خلق جو من الإرتياح، لكن ذلك لا يعدو كونه “أسبرين”، فالرئيس لا يملك عصا سحرية والقرار ليس عنده، ولا بدّ من انتظار الحكومة وطبيعتها ووزرائها وكيفية توزيعهم، وهل سيحصل تبّدل في النهج المعتمد أم لا. والحلول لا يمكن أن تكون بمعزل عن معالجة حقيقية للودائع وإعادة تكوين القطاع المصرفي.لا مصارف في البلدفي نيسان الماضي، أصدر مصرف لبنان تعميم رقم 165 المتعلق بعمليّات التسوية الإلكترونية العائدة للأموال النقدية. ووضع هذا التعميم أنظمة جديدة للمقاصة للأموال الجديدة، ونصّ على عن فتح حسابات جديدة في مصرف لبنان، مخصصة حصراً لإجراء جميع العمليات المتعلقة بمقاصة كل التحاويل الإلكترونية الخاصة بالأموال النقدية. وفق مقاربة حمود، التعميم هو الخيار المُر تفاديًا للأمر منه “على قاعدة أنّ الضرورات تبيح المحظورت، وذلك بهدف تضييق الباب الواسع أمام تبييض الأموال الذي خلقه الإقتصاد النقدي، من خلال الدفع بهذه العمليات الماليّة إلى القطاع المصرفي، الذي لديه قدرة ولو جزئية على الإمتثال، عبر التدقيق بمصادر الأموال تطبيقًا للمعايير والتشريعات المتعلقة بمكافحة تبييض الأموال، في حين أنّ التداول النقدي متفلّتٌ من أي ضوابط. بالتالي يهدف التعميم إلى مراقبة الحركة الداخلية ضمن الإمتثال الذي تمارسه المصارف، لكنّه سيكون قاصرًا عن جذب الأموال والإيداعات، فهل يمكن لأحد لديه عشرة الآف دولار أن يودع المبلغ في المصرف؟ الجواب لا بالتأكيد، وكل ما يمكن فعله أن يضع ألفي دولار لقاء الحصول على دفتر شيكات “فمن جرب المجرب كان عقلو مخرب”. وفق حمود “نحن اليوم ليس لدينا قطاع مصرفي، بل مصارف تحجز الوديعة خلافًا لرغبة المودع، وأكثر من ذلك تفرض عليها عمولات خدمة. ولا يمكن للقطاع أن يستعيد الثقة إلا ضمن ضمن المعايير الدولية الصحيحة. بالتوازي لن يحصل انفراج حقيقي إلا إذا كان هناك تغيير في إدارة شؤون البلاد، وليس هناك مؤشرات بهذا الإتجاه حتّى يومنا”.