بقلم الامين العام لمجلس الوزراء محمود مكية- نشر في جريدة “النهار”:
بتّ المجلس الدّستوري بقراره رقم ٦/٢٠٢٣ الصادر تاريخ ٣٠/٥/٢٠٢٣ بالمُراجعات المُتعلّقة بالطّعن بقانون التّمديد للمَجالس البلديّة والاختياريّة رقم ٣١٠ تاريخ ١٩/٤/٢٠٢٣ وانتهى إلى ردّ المُراجعات عملاً بمَبدأ استمراريّة المِرفق العام ذي القيمة الدستوريّة، بعد أن قابَل بين الضّرر النّاجم عن المُخالفة الدستوريّة (دوريّة الإنتخابات، مُخالفة الفقرة هـ من مُقدمة الدستور والمادة /١٦/ من الدستور) والضًرر الناجم عن الإبطال الذي يَمسّ مبدأ إستمراريّة المِرفق العام، ورجّح كفّة هذا الأخير، مؤكّدا على قراراتِه السابقة التي كرّس فيها الطبيعة الدستوريّة لهذا المَبدأ، على اعتبار أن انتظام أداء المؤسّسات الدستوريّة هو أساس الانتظام العام في الدولة، وإنّ الفراغ في المؤسسات الدستوريّة يَتعارض والغاية التي وجِدَ من أجلها الدّستور، ويُهدِد النظام بالسقوط ويَضع البلاد في المَجهول. (يراجع: قرار المجلس الدستوري رقم ٧/٢٠١١٤ تاريخ ١٨/١١/٢٠١٤)
Advertisement
كما أكّد على دستوريّة التشريع في ظلّ خلوّ سدّة الرئاسة ولحين إنتخاب رئيس جديد، مُستنداً بذلك إلى أنّ الغاية من المادة /٧٥/ من الدستور التي تنّص على “أنّ المجلس المُلتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعيّة ويَترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مُناقشة أو أي عمل آخر”، هي فقط إعطاء الأوليّة لانتخاب رئيس للجمهورية وحثّ المجلس على الإسراع في الإنتخاب ومَنعِه من القيام بأي عمل آخر أو مُناقشة في الجلسة المُخصّصة للإنتخاب، أمّا الشؤون العامة الأخرى الداخلة في اختصاص مجلس النواب فيُمكن عرضها في جلسات أخرى لطرحها ومُناقشتها وأخذ القرارات بشأنها، مُشيراً إلى أنّه إذا كانت شؤون المواطنين توجب التّشريع في ظلّ الشغور الرئاسي مع وجود حكومة كاملة الصّلاحيات، فإنّه من باب أولى القيام بذلك الواجب في ظلّ حكومة تصريف الأعمال.
ويُلاحظ أنّ المجلس الدستوري أغفل الإشارة إلى الضوابط على التّشريع في ظلّ حكومة تصريف الأعمال وهو أمر يَدعو إلى التَبصّر ويَفتح باباً للنّقاش خاصّة وإنّ الحرص على عَدم الشّلل والتّعطيل في المَرافق العامة يَجب أن يُقابله مبدأ دستوري بالتعاون والتوازن بين السّلطات. علماً أن المجلس قضى بوجوب عدم استسهال التّشريع في مرحلة تصريف الأعمال.
أمّا المسألة الأبرز التي حسمها المجلس الدستوري، والتي لا تقلّ أهميّة عن الخُلاصة التي انتهى إليها والمَعروضة أعلاه، هي مدى دستوريّة مُمارسة حكومة تصريف الأعمال لصلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً عملاً بأحكام المادة /٦٢/ من الدستور وآليّة عقد جلساتها وإتّخاذ قراراتها. حيث يتبدّى جليّاً أنّ المجلس قد خطا خُطوةً مُتقدّمة باتّجاه حسم هذا الأمر الذي أثير حوله، ولا يزال، جَدل عقيم، مؤكّداً، وبصورة حاسمة، مَسألة دستوريَة جَلسات الحكومة، نافياً وجود ما يُسمّى بالصّلاحيات اللصّيقة بشخص رئيس الجمهورية والتي لا يُمكن أن تَنتقل (بحسب وجهة نظر مُطلقيها) وكالةً إلى مجلس الوزراء عند خلو سدّة الرئاسة.
وجاء القرار ليَجزم بصورة قاطعة أولاً، وجوب انعقاد الحكومة بهيئة تصريف الأعمال، ثانياً، مُمارسة الحكومة لصلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً حتّى ولو كانت في مرحلة تصريف أعمال ثالثاً، عدم وجود ما يُسمّى صلاحيات لَصيقة بشخص رئيس الجمهوريّة لا يُمكن للحكومة مُمارستها وكالةً ورابعاً، دستورية الآليّة المعتمدة لعقد جلسات مجلس الوزراء وإتّخاذ القرارات فيه.
وعن وجوب إجتماع الحكومة المُعتبرة مُستقيلة وردّاً على الإدلاء بكون التشريع، في ظلّ حكومة مُعتبرة مُستقيلة وشغور الرئاسة الأولى مُخالفاً لأحكام الدستور، أكّد المجلس الدستوري بأن هذا القول لا يَستقيم، طالما أنّ صلاحيات الرئاسة تُمارس وكالةً من قبل مجلس الوزراء عملاً بأحكام المادة /٦٢/ من الدستور ووفقاً للآلية التي حدّدتها المادة /٦٥/ من الدستور.
ولم يَكتفِ المجلس في تحليله هذا، لا بل ذهب إلى أبعد من ذلك ليؤكّد “أنّه يَتوجّب على مجلس الوزراء الإنعقاد، بوكالته عن رئيس الجمهورية وأخذ القرار بشأن إصدار القانون وفقاً للآليات الدستوريّة المُعتمدة لعقد جلساته وإتّخاذ القرارات”.
وعليه يكون المجلس قد أضفى الشرعيّة والدستوريّة على وجوب اجتماع مجلس الوزراء بهيئة تصريف الأعمال وعلى الآلية والأكثرية المُعتمدة لإتّخاذ قراراته، ويَكون المجلس بعدم تسجيله أي تحفّظ عليها او أي مُخالفة دستوريّة بشأنها، قد أكّد على صحّتها ودستوريّتها خاصة وإنّه يعود له التطرّق إلى كلّ ما يشوب اصدار القوانين من مُخالفات دستوريّة وشوائب حتى ولو لم تثر من قبل الطاعن، لا بل من واجبه أن يثير هذا الموضوع عفواً عند إجراء رقابته الدستورية ليُرتّب عليها في النهاية النتائج اللازمة. ما يَدحض بالتالي ويَنسف إدّعاءات البعض حول عدم دستوريّة جلسات مجلس الوزراء واستبدالها بما يُسمّى ببدعة “المراسيم الجوالة”.
أما عن ما يُثار حول الصلاحيّات اللصيقة، فقد وضع القرار حدّاً للنّقاش القائم بين الصلاحيات اللّصيقة برئيس الجمهورية وبين غيرها من الصلاحيات على اختلافها وتنوّعها ذلك أنّه لا تمييز حيث لم يُميّز المُشترع، فنصّ المادة /٦٢/ من الدستور جاء واضحاً لا يحتمل التأويل ولا يكتنفه أي غموض، فضلاً عن أنّه لوحدة العلّة التي أملت انتقال الصلاحيّة الى مجلس الوزراء لمُمارستها بالوكالة عن رئيس الجمهورية، وهي تأمين المصلحة العامة واستمراريّة سير المرافق العامة، لا مَجال للتفريق في الصّلاحيات ووضع تَصنيفات لم يأت المّشرّع على ذكرها.
وأما لجهة الأكثريّة الواجبة وآليّة إصدار المُقرّرات، يتبيّن أن القرار كان جازماً لجهة دستورية إتّخاذ القرارات بالأكثرية وفقاً للآلية المُعتمدة (راهناً) طالما أنّ صلاحيات الرئاسة تُمارس وكالةً من قبل مجلس الوزراء عملاً بأحكام المادة /٦٢/ من الدستور للآلية التي حدّدتها المادة /٦٥/ من الدستور.
ويَقتضي الإشارة إلى أنّ ما يَدعم هذا الإتّجاه هو ما سَبق أن كرّسه القضاء الإداري حين تصدّى (مجلس شورى الدولة) لمسألة الأكثريات المَفروضة عند مُمارسة مجلس الوزراء لصلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً تزامناً مع شغور سدّة الرئاسة، وتوجّت قراراته بقرار صادر عن مجلس القضايا (أعلى مرجع قضائي إداري يتألف من رئيس مجلس شورى الدولة ورؤساء الغرف وثلاثة مُستشارين) اعتبر فيه أنّه يَقتضي تَطبيق المبادئ العامة للأصول التي تفرض تطبيق نظام اتّخاذ القرارات من قبل الأكثريّة في كلّ مرّة تُعطى الصلاحيات لمجالس أو هيئات مُتعدّدة الأعضاء كمجلس الوزراء، وأن الأخذ بالرأي المُخالف يؤدّي إلى إعطاء الأكثرية والأقلية القوّة ذاتها في اتخّاذ القرارات وبالتالي إعطاء الأقليّة حق نقض وشلّ عمل الهيئة، ومن ثم شلّ العمل الحكومي برمّته إذا ما طبق هذا المبدأ على عمل مجلس الوزراء.
علماً أنّه لا يوجد، لا قبل تعديل الدستور ولا بعد تعديله بتاريخ ٢١/٩/١٩٩٠ أي نصّ دستوري أو قانوني أو تنظيمي يفرض بأن تكون مُداولات مجلس الوزراء واتّخاذ القرارات بحضور جميع الوزراء، لا بل على النقيض من ذلك، فقد حدّد الدستور بوضوح في المادة /٦٥/ منه النّصاب القانوني لاجتماع مجلس الوزراء بأكثريّة ثُلثي أعضائه، ولم يفرض، ولا يُمكن أن يفرض، وجود جميع أعضاء الحكومة المُحدّدة في مرسوم تشكيلها لقانونية اجتماع مجلس الوزراء خوفاً من شلّ حسن سير المرفق الحكومي وعرقلة بالتالي عمل الحكومة الحيوي لشؤون الدولة برمّته.
وعلى نحو موازٍ، ارتأى الإجتهاد الإداري وفي ما يَتعلّق بآلية إصدار المُقررات، بأنّ مُمارسة مجلس الوزراء لصلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً عند شغور سدّة الرئاسة، لا يَعني ــ ولا يجب أن يَعني ــ أنّ جميع أعضاء الحكومة يَشتركون بتوقيع وإصدار المُقررات المُتّخذة بهذه الصفة، على اعتبار أنّ هذه الأعمال، وكما قرّر مجلس شورى الدولة بشكل حازم وجازم، تبقى خاضعة لأحكام المادة /٥٤/ من الدستور التي تفرض توقيع رئيس الحكومة لكونه يُمثّل الحكومة وينطق باسمها، إضافة إلى الوزير أو الوزراء المُختصّين على مُقرّرات رئيس الجمهورية.
(للإطلاع على المراجع والأسناد القانونية ذات الصلة تُراجع دراستنا المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية بين الأصالة والوكالة وتصريف الأعمال ــ جريدة الشرق الأوسط تاريخ ٢٨/٩/٢٠٢٢ والمجلة القضائية ـــ صادر ـــ دراسات وآراء ــ تاريخ ٣٠/٩/٢٠٢٢، ودراستنا حول مفهوم وحدود المعنى الضيّق لتصريف الأعمال ــ جريدة الشرق الأوسط ــ العدد ١٦١٨١ تاريخ ١٨/٣/٢٠٢٣)
ختاماً، من المُفيد الإشارة إلى أمرين، الأول هو أنّ النتائج التي خَلص إليها المجلس الدستوري سَبق وأن بَحثنا فيها تفصيلاً في الدراستين المَذكورتين أعلاه وقد جاء جواب المَجلس ليؤكّد على صوابية النتائج التي خلصنا إليها، والثاني هو أنّ قرار المجلس الدستوري شهد مُخالفة لبعض الأعضاء في الشقّ المُتعلّق بمَبدأ دوريّة الإنتخابات والظروف الإستثنائيّة فقط بمَعنى أنّه وخارج هذا السياق لا سيّما لناحية دستوريّة اجتماعات ومُقرّرات حكومة تصريف الأعمال فقد أضحت هذه المسألة من الثوابت الدستوريّة وثمرة إجماع أعضائه كافة.
وبالمَحصلة، وبعد أن حُسم النّقاش وأفتى المجلس الدستوري برأيه حول دستوريّة اجتماعات وآلية اتّخاذ القرّرات في حكومة تصريف الأعمال على النّحو اعلاه، تَبقى الأنظار شاخصة إلى ما سيُقرّره مجلس شورى الدولة في المُراجعة المُقدّمة من الوزيرين السيّدين هكتور الحجّار وعصام شرف الديّن خاصّة بعد أن وضع المُستشار المُقرّر القاضي يوسف الجميل تقريره بتاريخ ٦/٣/٢٠٢٣ ورأى وجوب ردّ هذه المُراجعة بالشّكل.