عاد الموفد الفرنسي جان ايف لودريان إلى بلاده حاملًا معه ملفًا متكاملًا عن زيارته لبيروت، والذي يلخصّ مجمل لقاءاته مع المسؤولين عن الأزمة الرئاسية. وهذه الخلاصة التي توصّل إليها “صديق” لبنان كان يتوقعّها، ولم يفاجأ بها. فهو كان يعرف قبل أن يصل إلى العاصمة التي يحبها ما ستكون عليها النتيجة، التي يعرف تفاصيلها حتى أكثر من بعض المسؤولين، الذين قد تكون لديهم اهتمامات أخرى غير متابعة تفاصيل الوقائع السياسية بدقائقها.
فالموفد الفرنسي كان يعرف مسبقًا ماذا سيقول له هذا السياسي وذاك الزعيم. وقد يكون قد أعدّ تقريره، الذي سيرفعه إلى الرئيس الفرنسي، قبل لقاءاته في بيروت. فهو يحفظ عن ظهر قلب موقف كل فريق سياسي، ويدرك تمام الادراك عمق المأزق، الذي يعيشه اللبنانيون، والناتج في جزئياته عن الخلاف العميق القائم بين مكونات الوطن، وهو خلاف تمتدّ جذوره إلى عمق أعماق طبيعة التركيبة السياسية في لبنان، وهو يزداد عمقًا في كل مرّة يجد اللبنانيون أنفسهم أمام استحقاقات دستورية مصيرية كانتخابات رئاسة الجمهورية، وقبلها استحقاق تشكيل الحكومات، وهي استحقاقات تخضع لمعايير خاصة بكل طرف من أطراف الصراع السياسي، وليس لمعايير محدّدة بالدستور، على رغم أن بعض مواده تحتاج إمّا إلى تفسير وإمّا إلى تعديل.
وعلى رغم معرفته الواسعة بما يتخبّط به لبنان من مشاكل،فإن لودريان اكتشف هذه المرّة مدى عمق الخلاف، الذي يفصل بين الأحزاب اللبنانية، والذي ينعكس في شكل أو في آخر على الحياة السياسية في لبنان، التي باتت ايقاعاتها منضبطة على وقع المواقف المتصلبة، التي تصدر من وقت لآخر عن قيادات في هذا المحور أو في ذاك الموقع المتصدّر سياسيًا.
وهذا الخلاف الذي أصبح متجذّرًا في النفوس أوقع الموفد الفرنسي، كما غيره من الموفدين الدوليين والعرب، في مأزق التفريق بين ما هو صحّ وبين ما هو خطأ، إذ لكل طرف حجّته وذرائعه ومنطقه الخاص به. وكل من “يخبّر الخبرية” على طريقته يحاول أن يقنع المستمعين إليه بأن الحقّ إلى جانبه وأنه على صواب، فيما الآخرون هم على خطأ ويقودون البلاد إلى المجهول.
استمع لودريان إلى الجميع وكوّن فكرة عامة عن مدى عمق الخلاف المتجذّر بين اللبنانيين المنقسمين إلى محورين متنافرين ومتناقضين في التوجهات والرؤية، وهو تقصّد ألا تكون له مداخلات، لا سلبية ولا إيجابية. لم يرد أن تؤثّر أفكاره على مجرى مهمته الاستطلاعية، علمًا أن مواقفه من الأزمة اللبنانية معروفة، وهو صاحب نظرية إن لم تساعد نفسك فلن يساعدك الآخرون. وهي نظرية تتلاقى في خلفياتها مع الدعوات القائلة بضرورة ممارسة اللعبة الديمقراطية البرلمانية إلى أقصى الحدود، خصوصًا بعدما أفرزت المواقف والمعطيات مرشحين معلنين وغير مستترين، وهما الوزير السابق سليمان فرنجية، وهو مرشح محور “الممانعة”، والوزير السابق جهاد ازعور، وهو مرشح محور “المعارضة”، وقد تنازلا في جولة أولى من المبارزة الرئاسية، ولم يتمكّن أي منهما الفوز لا بالضربة القاضية ولا بالنقاط. وهذا ما يستدعي إكمال الشوط الرئاسي حتى نهاياته بجولات متتالية تمامًا كما يحصل في أي مباراة رياضية، حيث يُكتب الفوز لمن يستطيع إثبات قدراته ومهاراته أكثر من الآخر.
وعليه، فإن الموفد الفرنسي الرئاسي قد يعود بعد أسابيع حاملًا معه تصورًا للحلّ، الذي يقوم على أن التوافق الداخلي على اسم الرئيس غير المنتمي إلى أي من المحورين المتنازعين، سياسيًا وايديولوجيًا، قد يقود حتمًا إلى مؤتمر حوار وطني يرعاه الرئيس الجديد، أيًّا يكن، وبضمانة مجموعة الدول الخمس هذه المرّة.