لم يكن أي تعديل في نظام البنية السياسية في لبنان يتمّ على البارد. هذا ما حصل في اتفاق الطائف، وبعده في اتفاق الدوحة. فقبل الوصول إلى التوافق على الصيغة، التي أقرّت في مؤتمر الطائف، برعاية عربية، وبتغطية دولية، مرّ اللبنانيون بأسوأ أيامهم، مع ما شهدته الحرب من كوارث وويلات، وما خلّفته من ضحايا ودمار وخراب.
فهذا الاتفاق لم يأتِ إلاّ بعدما عاش اللبنانيون ما لم يعشه شعب آخر على مرّ التاريخ الحديث. ولولا النتائج الكارثية، التي حلّت بالجميع على حدّ سواء، لما كان هذا الاتفاق، الذي لم تُطبق كل بنوده على رغم مرور عشرات السنين على اقراره، قد أبصر النور.
ولو لم تكن 7 أيار لما كان اتفاق الدوحة بما تضمّنه من بنود يقول كثيرون عنها بأنها كانت بمثابة “ميني انقلاب” على الطائف، حين تكرّس مبدأ “الثلث المعطّل”، الذي ساد منطقه طوال الفترة التي تلت هذا الاتفاق، وهو الذي حال في الماضي دون التوصل إلى تفاهمات معينة على الأسس، التي كان يُفترض أن ترافق عمليات تشكيل الحكومات المتعاقبة، والتي كانت تستغرق وقتًا طويلًا قبل أن تتشكّل. وأكبر دليل ما حصل في آخر أيام الرئيس السابق ميشال عون.
أمّا اليوم فيكثر الكلام في المقلب المناهض لـ “حزب الله” حول مساعيه الآيلة إلى تغيير النظام، واتهام “الثنائي الشيعي” بتعطيل الانتخابات الرئاسية والتخطيط للفراغ الرئاسي واستمراره، وذلك بهدف الضغط على القوى السياسية الاخرى للذهاب إلى مؤتمر تأسيسي، يكون نتيجة عدم التفاهم على رئيس وسطي للجمهورية. وهذا ما ينفيه “حزب الله” وحركة “أمل”، اللذان لا ينفكّان يدعوان إلى حوار رئاسي، ترى فيه “المعارضة” نوعًا من الضغط للوصول إلى هذا المؤتمر على البارد، أو على “جثة” الفراغ الرئاسي، وهما يتهمان “المعارضة” ولا سيما من لا يريد وصول سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا بأنها تحاول تصوير موضوع الحوار على غير حقيقته ومراميه وأهدافه، وبأنها تتهم “حزب الله” بجرّ اللبنانيين إلى مؤتمر تأسيسي وتهوّل على اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصاً بأن “الحزب” يخيّر المسيحيين بين فرنجية والمؤتمر التأسيسي او الفراغ الشامل في المؤسسات تمهيداً للوصول الى أزمة حكم وأزمة نظام لفرض صيغة حكم أو نظام سياسي جديد.
وفي رأي أوساط “الثنائي الشيعي” أن تنامي موجة الحديث عن “الفيديرالية”، التي تؤيد فكرتها قوى مسيحية فاعلة، ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة تلقائية لمشاريع قديمة يُعاد إحياؤها من جديد.
أمّا “المعارضة”، ووفق ما تقول أوساطها، فإن جلّ ما تريده هو نزول النواب إلى “ساحة النجمة” والقيام بواجبهم الوطني والدستوري، وعدم الخروج من القاعة العامة إلاّ بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية. أمّا الأمور الإصلاحية الأخرى فتُبحث بعد انتظام العمل المؤسساتي القائم على مبدأ فصل السلطات وتكاملها، بما فيها السلطة القضائية المطلوب منها أن تقوم بدور أساسي في المجال الإصلاحي ومكافحة الفساد قبل أي أمر آخر.
أمّا ما يُحكى عن مؤتمر تأسيسي أو ما يتمّ ترويجه عن صيغ بديلة للصيغة الحالية القائمة فليس، بحسب هذه الأوساط، سوى ذرّ المزيد من الرماد في العيون،وتهرّب مكشوف من الالتزام بتطبيق كامل بنود اتفاق الطائف، الذي يبقى الصيغة الوحيدة القادرة على جمع اللبنانيين تحت سقف واحد بالمساوة بين الجميع، وتوازيًا مع موجبات الحقوق والواجبات والاحتكام إلى قوة القانون فقط، مع اعتراف هذه الأوساط بضرورة ادخال بعض التعديلات والتفسيرات على هذا الاتفاق، وذلك تلافيًا للوقوع في محاذير المهل القانونية.
فإذا كان الجميع، على حدّ قولهم، لا يريدون تغيير النظام فعلى ما الاختلاف إذًا، ولماذا لا يُنتخب رئيس للجمهورية اليوم قبل الغد؟