الذين يراقبون ما يحصل في شوارع باريس من مظاهرات احتجاجية يقولون إن هذا الأمر ليس جديدًا في بلد يقدّس الحرية بكل أشكالها، ولاسيما حرية التعبير. ولكن هذه المظاهرات تأتي اليوم وسط مخاوف كثيرة، وأهمها ما بدا يظهر إلى العلن حول التقسيم الطبقي والعرقي، إذ يخشى جميع الذين أعينهم على ما يحصل في الربوع الفرنسية من أن تتطّور الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه.
وهذه الأوضاع الداخلية تدفع باريس، مجبرة، إلى تقليص أدوارها الخارجية، ومن بينها ما كانت توليه من اهتمام بالشأن اللبناني عبر موفدها الرئاسي جان ايف لودريان، الذي قد يؤخّر عودته إلى بيروت إلى ما بعد جلاء الأوضاع المضطربة في العاصمة الفرنسية.
فباريس المنشغلة بمشاكلها الداخلية ستجد نفسها مضطّرة لأن “تفرمل” تحرّكاتها الخارجية إلى حين استقرار الوضع في عمقها الداخلي، من دون أن يعني ذلك تخّليها عن دورها ضمن مجموعة الدول الخمس بما يخصّ الوضع اللبناني. إلاّ أن زخم تحرّكها في اتجاه لبنان قد يبطأ قليلًا، وهذا ما يناسب ربما بعض الفئات اللبنانيية، التي لا تزال تراهن على بعض المتغيّرات الخارجية، سواء بالنسبة إلى تطورّ العلاقات السعودية – الإيرانية، أو ما قد تشهده المحادثات الأميركية – الإيرانية من إيجابيات في الملف النووي، وذلك اعتقادا منها بأن هذه التطورات الخارجية قد تصبّ في مصلحة تعزيز موقعها السياسي في المعادلات الخارجية، التي لا بدّ من أن يكون لها انعكاسات على الملف الرئاسي اللبناني.
على أي حال، فإن الدورة السياسية المحلية بدأت تستعيد بعضًا من حيويتها بعد عطلة عيد الأضحى المبارك، من دون أن يعني أن هذه العودة ستفضي حتمًا إلى تحريك الملف الرئاسي الموضوع حاليًا في ثلاجة الانتظار المبهم وغير الواضح، من دون أن يعرف أحد ما الذي ينتظره هؤلاء المراهنون على الحراك الخارجي، خصوصًا أن الحديث عن مبادرة فرنسية تلوح في الأفق وتقوم على دعوة الأفرقاء في لبنان الى حوار، سواء أكانوا من الصفّ الأول أو من الصفّ الثاني، وذلك اقتناعًا من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بأن لا مفر من جلوس القوى المتخاصمة مع بعضها البعض من اجل التوصل الى توافق حول إنهاء الفراغ الرئاسي.
فبعد زيارته الأولى لبيروت كوّن الموفد الفرنسي فكرة أكثر من واضحة حول الأزمة الحقيقية، التي يعيشها اللبنانيون، والتي لها خلفيات تتخطّى ببعدها الاستراتيجي الملف الرئاسي. من هنا تولدّت لديه قناعة بضرورة جمع الأفرقاء اللبنانيين بمختلف مشاربهم السياسية إلى طاولة حوار تكون بمثابة “ميني طائف” أو “أكسترا دوحة”. إلاّ أنّ الحديث عن مؤتمر حوار لبناني – لبناني يسبق انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يلقى ترحيبًا من قِبَل بعض أطراف اللجنة الخماسية، انطلاقًا من أن الحوار يجب أن يكون داخليًا ويقتصر على التوافق على آليات إخراج لبنان من أزماته الضاغطة، وكذلك بناء على رفض جميع أطراف اللجنة البحث في الصيغة الدستورية لاتفاق الطائف، لأنّ ذلك سيفتح البازار على مطالب طائفية لا نهاية لها، وسيهدر المزيد من الوقت بدل الاستفادة من التفاهمات الإقليمية والدولية التي يمكن أن تشكّل مظلة للحوار الداخلي بعد انتظام عمل الدولة ومؤسساتها.
وهذا الحذر من بعض أعضاء اللجنة الخماسية يتماهى مع رفض “المعارضة” اللبنانية فكرة الحوار بالطريقة التي تطرحها “القوى الممانعة”، خصوصًا وأن ملف الانتخابات الرئاسية قد دخل في مرحلة من الجمود والمراوحة، تبدو طويلة في ظل انعدام الحركة السياسية الداخلية، وتمهّل الخارج غير المستعجل.