رغم إبتعاده عن رئاسة الحزب “التقدُّمي الإشتراكي” التي تسلّمها نجلهُ النائب تيمور قبل أكثر من 10 أيام، يبقى وليد جنبلاط في الموقع الذي لا يُمكن أنْ يملأهُ أحدٌ في الوقت الرَّاهن أقله ضمن السَّاحة الدرزية. في الواقع، فإنّ ما يحظى به جنبلاط من مكانة يجعله مرجعية أساسيّة لدى مختلف الأطراف السياسيَّة حتى وإن كان خارج دائرة رئاسة “الإشتراكي”، والسبب هنا هو أنّ “زعيم المختارة” يساهم في حفظ التوازنات بثقله السياسي، وقرارته هي التي ستؤثر على “الإشتراكي” ومسارِه.
ما يُقال هنا يأتي مقدّمةً لأمرٍ مهم جداً، فجنبلاط قرّر التخلي عن رئاسة “الإشتراكي” وسط 3 ظروفٍ صعبة: الظرف الأول ويرتبط بإنهيارٍ إقتصادي داخلي، فيما الثاني يتصلُ بشغور رئاسي يتطلبُ موقفاً درزياً واضحاً، فيما الأمر الظرف الثالث يرتبطُ بالعلاقات مع دول المنطقة خصوصاً بعد عودة سوريا إلى الحُضن العربي. عملياً، كلُّ هذه الظروف تتقاطع في ما بينها لتُشكل أساساً للمواجهة، لكنّ جنبلاط أسندَ إدارة “الواجهة” لنجله ليبقى هو في تدبير شؤون الكواليس.. ولكن يبقى السؤال: هل سيتحرر جنبلاط ومن خلال موقعه الجديد، من تحالفاته الثابتة لاسيما مع رئيس مجلس النواب نبيه بري؟ هل استطاع جنبلاط بخروجه من القيادة السياسية الحزبيّة القول إنه لم يعد مؤثراً وهناك جهة يجب التعامل معها والوقوف عند رؤيتها، والمعني هنا تيمور؟ أم أن حركة جنبلاط باتت أسهل وبإمكانه السعي أكثر من موقعه جديد لإيجاد الحلول؟قبل يومين، زار وفدٌ من حركة “أمل” مركز “الإشتراكي” حيث التقى النائب تيمور جنبلاط الذي تلقى التهنئة بتوليه قيادة الحزب. الأساسُ هنا في هذه الزيارة هو ترسيخ العلاقة بين الجهتين، ويأتي هذا الأمر إمتداداً لما يريده جنبلاط الأب وبري في الوقت نفسه. إلا أنه رغم “العلاقة المتينة” بين الحزبين، فإنّ “الزعيم الأب” لم يُعطِ أي إشاراتٍ على تقارب مع “أمل” في الملف الرئاسي، وكما هو معروف فإنَّ “الإشتراكي” لا يؤيد ترشيح رئيس “تيار المرده” سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية مثل “حركة أمل”. وعليه، فإن الإفتراق يبقى قائماً بين الطرفين إلى حين الوصول إلى تسوية تجمعهما. وفي الآونة الحالية، فإنّ ما يدفع “أمل” و”الإشتراكي” للتلاقي هو شعار الحوار، في حين أنّ الإلتقاء على مرشح واحدٍ يعتبرُ من الأمور الصعبة جداً وسط عدم وجود خيارات لذلك. هنا، يمكن لجنبلاط أن يكون حيادياً ويُقدّم الطروحات التي يراها مناسبة، وبإمكان نجلهِ تيمور أن يختار المسار الرئاسي الذي يراهُ مناسباً مع كتلته النيابيّة. حتماً، قد لا يؤدي ذلك إلى إنفراط العلاقة مع بري، فالأمور ستبقى على ما يُرام حتى وإن تباينت التوجهات.إلا أنه في المقابل، فإن جنبلاط الأب سيدخلُ حُكماً على الخط لصالح حليفه التاريخي عندما يتعلقُ الأمر بـ”إستحقاقات مفصلية”. هنا، تبرزُ اللحظات المصيرية التي سيتخطى جنبلاط كل الاعتبارات في سبيل تثبيتها، ومُجدداً قد يلعبُ جنبلاط “دور الإطفأجي” لتحصين السلم الأهلي. حقاً، هذه مهمّة جنبلاط الأساسية، فأداؤه على وتر التوازنات وحفظ صيغة العيش المشترك هو الأساس فيما القضايا الأخرى تبقى تفصيليّة. لتثبيت هذا الكلام، تكثر الأمثلة عما كان يفعله جنبلاط. حتماً، بادر الاخير خلال قضية الطيونة بين حركة “الثنائي الشيعي” و”القوات اللبنانية” أواخر العام 2021 إلى “إطفاء” نيران التوتر بإتصالاته وعلاقاته مع الأطراف العديدة، فيما كان له موقفٌ حاسمٌ مؤيد لـ”حزب الله” خلال معركة ترسيم الحدود البحريّة في أوساط العام 2022.عند هذه الإستحقاقات وغيرها، يلمعُ نجم وليد جنبلاط بشدّة أكثر من أي وقتٍ مضى، وهذا ما يريده بري حقاً. بالنسبة للأخير، يبقى جنبلاط بمثابة “ضابط الإيقاع” للكثير من الملفات، ومن دون كلمته لا تقدّم أو شرعية سياسية، في حين أنه لا ضرر بـ”الإختلاف” على رئاسة الجمهورية. عملياً، فإنّ المسار الذي سيسكله جنبلاط عاجلاً أم آجلاً سيكون هدفه الأول تحصين زعامة نجله، فمن مصلحة “الوليد” أن يكون الوضع مستقراً كي لا يغرق تيمور في متاهات السياسة الضيقة. مع ذلك، فإنّ بقاء جنبلاط في كواليس التحالفات التي يرتبط بها “الإشتراكي” يعني تماماً أن “الزعيم الدرزي” لم يُلغِ إتصالاته مع أحد حتى مع “حزب الله”. أما الأمر الأكثر بروزاً فيتصلُ بعلاقة “الإشتراكي” مع سوريا. ضمنياً، فإن خروج جنبلاط من رئاسة الحزب قد يفتح الباب أمام نجله لإعادة نسج العلاقات مع دمشق.. فالرجل الذي لديه مشكلة مع “النظام السوري” بات بعيداً، وبالتالي هناك جبهة جديدة “غير ممنوعة” من الدخول إلى سوريا. لهذا، قد يكون إبتعاد جنبلاط عاملاً مساهماً في حدوث إنفتاحٍ “إشتراكي” – سوري في مراحل مستقبلية.إذاً.. ما هو موقع جنبلاط الجديد وما هي الأدوار التي تنتظره؟ الإجابة هنا قد تكونُ طويلة، لكن يمكن إختصارها بكلمتين: “مرجعية تأثيرية”. واليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، بات جنبلاط في موقعٍ أكثر تحرراً من السابق، فمن خلال علاقاته بإمكانه مُساندة حليفه نبيه بري عبر الدعوة إلى الحوار الداخلي وتقريب وجهات النظر في هذا الخصوص. حتماً، قد يكون جنبلاط ساعياً لهذا الأمر عبر وسائل كثيرة، فيما بإمكانه أن يلعب دوراً للتقريب أكثر بين السعوديين و”حزب الله” في وقتٍ لاحق كونهُ على علاقة جيدة بالطرفين. أما الدور الأهم الذي يجب على جنبلاط التمسك به يتمثل بتكريس الأرضية التي تضمن لنجله إرتباطاً بمختلف الطوائف خصوصاً السنية والمسيحية، فالمصلحة الإنتخابية في الجبل تقتضي ذلك، والرهان يبقى على “الحنكة” التي سيُظهرها تيمور بمفرده خلال إدارة الإستحقاقات الشعبية. إضافة إلى كل ذلك، فإنّ ما يطمح إليه جنبلاط من أجل نجله، هو الإستقرار في الساحة السنية لصالح “الإشتراكي”، عندئذٍ ستكون الأمور بخير، وسيكون نطاق تحرك تيمور أكثر سلاسة مقارنة مع مرحلة تحملُ الكثير من الألغام.