في وقتٍ يسهم “التيار الوطني الحر”، مع غيره من القوى السياسية، في “تكريس” الفراغ الرئاسي عبر إطالة أمده، بل “تعميمه” ليشمل مواقع حسّاسة أخرى، أولها حاكميّة مصرف لبنان، يعود بين الفينة والأخرى إلى سرديّة “التطبيع مع الفراغ” للتصويب من خلالها على الحكومة، التي يرفض اجتماعاتها بالمُطلَق، من دون أن يثنيه ذلك عن “التهليل” لقراراتها عند اللزوم، كما فعل أخيرًا عند إقرار الترقيات العسكرية مثلاً.
Advertisement
تجلّى ذلك بوضوح في البيان الأخير للمجلس السياسي لـ”التيار الوطني الحر” الذي قفز فيه فوق الاستحقاق الرئاسي “المعطّل”، مكتفيًا على خطّه بإبداء “الانفتاح” على حوار سبق أن عطّله، ولا يزال يحاصره بـ”الشروط”، ليصوّب على الحكومة، ناعتًا إياها بـ”ناقصة الشرعية”، ومتحدّثًا عن محاولة فرض “أمر واقع”، قوامه تكريس معادلة أنّ “حكم البلاد ممكن من دون رئيس يمثل المسيحيين”، وهو ما اتهم قوى وكتلاً نيابية بالدفع باتجاهه.
ولأنّ “التيار” أقرّ في بيان مجلسه السياسي نفسه بأنّ الفراغ الرئاسي “يهدّد بالتمدُّد الى مواقع أخرى في وظائف الفئة الأولى التي يشغلها المسيحيون عرفًا”، وهو ما يعني أنّ البلاد قد تكون مقبلة على “فراغ شامل”، إذا لم يُنتخَب رئيس في القريب العاجل، تُطرَح علامات استفهام بالجملة عن مآلات الوضع القائم، فماذا يريد “التيار الوطني الحر” فعليًا؟ ولماذا يستحضر سرديّة “التطبيع مع الفراغ” اليوم، بدل السعي لإنهائه بكلّ بساطة؟!
مقاربة “الوطني الحر”
يدافع المحسوبون على “التيار الوطني الحر” والمقرّبون منه عن السرديّة التي يعتمدها، سواء في بياناته الرسمية أو في إطلالات نوابه وقياديّيه، باعتبار أنّ الفراغ الرئاسي هو “حالة استثنائية وشاذة”، لا ينبغي أن “تستقيم معها الأمور”، كأنّ “شيئًا لم يكن”، الأمر الذي يفرغ موقع رئاسة الجمهورية من مضمونه بالمُطلَق، ويدفع إلى إيهام الرأي العام بأنّ البلد يستطيع أن يُحكَم من دون رئيس للجمهورية، وهو ما يخالف الحقيقة ومنطق الأمور.
وإذا كان “العونيّون” يبدون معارضتهم من الأساس لاجتماعات الحكومة بغياب الرئيس، رغم عدم تشكيلها “سابقة”، باعتبار أنّهم من أسّسوا لها إبان فراغ 2014-2016، إلا أنّ ما أثار “نقزتهم” وفق ما يقول المحسوبون عليهم، هو ما تمّ تناقله في الأيام الأخيرة، عن احتمال إجراء الحكومة “تعيينات” تشمل حاكمًا أصيلاً لمصرف لبنان، بعد انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة، وربما قائدًا جديدًا للجيش، باعتبار أن ولاية العماد جوزيف عون تنتهي مطلع العام المقبل.
ومع أنّ “سيناريو” التعيينات هذا لا يزال بعيدًا، في ظلّ استبعاد العارفين حصولها أصلاً من دون “إجماع” غير متوافر، يصرّ المحسوبون على “التيار الوطني الحر” على أنّ مجرد التفكير بالأمر يوجّه رسالة “في غاية السلبيّة والخطورة”، ولا سيما أنّ حاكم مصرف لبنان وقائد الجيش يفترض أن تكون الكلمة المفصليّة في تعيينهما لرئيس الجمهورية، وبالتالي فإنّ القفز فوقه لا تفسير له سوى على أنّ “وجود رئيس أو عدمه هو سيّان”، وهنا بيت القصيد.
مسؤولية “التيار” قبل غيره
لكن، بعيدًا عن مقاربة “التيار”، التي قد يصحّ وصفها بـ”الشعبوية” كما ينعتها بعض خصومه، الذين يتحدّثون عن “ازدواجية” في أداء “العونيّين” مع الحكومة والبرلمان في ظلّ الفراغ، يقول العارفون إنّ الحديث عن “التطبيع” وتوزيع المسؤوليات بهذا الشكل ليس سوى تفصيل، فالمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على “التيار” وغيره من القوى، التي تصبّ جلّ اهتمامها على “الملف الخطأ”، بدل أن “تفرج” عن استحقاق الرئاسة.
يوضح هؤلاء أنّ المفارقة تكمن في وضع الحكومة في مرمى الاتهام، في حين أنّها هي التي تملأ الفراغ وحدها، في ظلّ تعطيل يشمل كل المؤسسات والمواقع، ينعكس شللاً وجمودًا يؤثر سلبًا وبشكل مباشر على شؤون المواطنين، علمًا أنّ ما تقوم به الحكومة هو ناتج عمّا تتسبّب به القوى “المزايدة عليها” من تكريس للفراغ الرئاسي، بل “تعميم” له ليشمل سائر المواقع الأساسيّة والحسّاسة، التي “يتباكى” عليها البعض اليوم.
من هنا، يشدّد العارفون على أن الأوْلى بالقوى الرافضة لـ”التطبيع مع الفراغ” العمل على إنهاء هذا الفراغ، وليس رفض ما ينتج عنه من خطوات ضرورية وإجراءات استثنائية، علمًا أنّ هذه القوى بالتحديد هي التي تضع العصيّ في دواليب الحوار مثلاً، رغم اقتناع الجميع بأنّه “شرط ضروري” للتفاهم على انتخاب الرئيس، وبالتالي فمن غير الكافي الحديث عن “انفتاح” على الحوار، إن لم يقترن بإجراءات فعليّة وملموسة في هذا الصدد.
قد يكون شعار “التطبيع مع الفراغ” مغريًا للكثير من القوى السياسية، التي ترفض “منطق” أنّ البلاد يمكن أن تُحكَم من دون رئيس، وبالتالي أنّ كلّ القرارات يمكن أن تُتّخَذ حتى لو لم يُنتخَب رئيس. وإذا كان مثل هذا “الشعار” محقًا وسليمًا بصورته العامة، إلا أنّه يبدو “مضلّلًا” في الواقع اللبناني المفتوح على “انفجار اجتماعي”، ما يفرض من هذه القوى العمل سريعًا على حلّ المعضلة، عبر انتخاب رئيس، لتنتظم معه كلّ السلطات!