الكلام الذي أدلى به رئيس مجلس النواب نبيه بري أمام وفد من نقابة المحررين عن الطائف ورغبة البعض بالانقلاب عليه، وضع الاصبع على الجرح النازف منذ ما لا يقلّ عن ثلاث وثلاثين سنة على الأقل، خصوصًا عندما أعلن بري صراحة رفضه المطلق لأي مس بهذا الاتفاق، قائلًا: “عشنا ومتنا حتى أنجزنا هذا الاتفاق وأقول لمن يريد تغييره “فليقعد عاقل أحسن له”. وأضاف: “ان دعوات البعض لتغيير النظام تضع لبنان في مهب مخاطر لا تحمد عقباها”. وسأل: هل طبّقنا الطائف كي ندعو إلى تغييره؟ فلنطبق هذا الاتفاق بكل بنوده وخاصة الاصلاحية منها لا سيما اللامركزية الإدارية وقانون للانتخابات خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس للشيوخ.”
فهذا الكلام الذي قاله الرئيس بري في شكل صريح ولا يقبل التأويل، فتح الباب على مصراعيه أمام جدلية قديمة تتجدّد في كل مرّة يقف اللبنانيون أمام استحقاق مصيري كانتخاب رئيس الجمهورية مثلًا، أو عند تشكيل الحكومات، خصوصًا بعد اتفاق الدوحة، الذي يرى فيه البعض تشويهًا لروحية اتفاق الطائف ونصّه القائم أساسًا على توازنات قيست بميزان الجوهرجي، وفق ما تمّ التوصّل إليه بعد بحث معمّق كانت للرئيس حسين الحسيني، رحمه الله، بصمات واضحة، بالتنسيق الدائم مع غبطة البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، على تفاهمات أدّت في ما أدّت إليه، وقبل أي أمر آخر، إلى وقف الحرب وما فيها من مآسٍ وويلات، وإلى نقل صلاحيات السطلة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعًا. وهذا ما قلّص صلاحيات رئيس الجمهورية، الذي أنيط به دور “رمزية وحدة الوطن” دون سائر الرؤساء. وهذا ما اعتبره البعض غير كافٍ بالتوازي مع الصلاحيات المعطاة لكل من رئيسي مجلس النواب والحكومة.
يرى البعض أن من تولّى السلطة في ظلّ الوصاية السورية، كان خاضعًا لمعايير خاصة بما كان يرتأيه المسؤولون السوريون آنذاك، وإن لم يكن متطابقًا كثيرًا مع حيثيات اتفاق الطائف، الذي لم تُطبّق كامل بنوده لأسباب لها علاقة بما كان السوريون يرون فيها مصلحة لاستمرارية وجودهم “الشرعي والمؤقت”، حيث طغت فكرة “الترويكا” الرئاسية على ما عداها من أفكار إصلاحية وردت في هذا الاتفاق، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر تطبيق اللامركزية الموسّعة وإلغاء الطائفية السياسية وحصر السلاح بيد القوى اللبنانية الشرعية، مع ما ظهر من نواقص تفسيرية لبعض البنود غير الواضحة، والتي يكتنفها الغموض، والتي أدّت إلى ممارسات خاطئة في استخدام مفرط لحدّ السلطة، الذي لم يأتِ منسجمًا مع ما كان اللبنانيون يتطلعون إليه من إصلاحات مؤسساتية في التركيبة الهشّة، التي كانت تُدار من خلالها شؤون البلاد وفق معايير لا علاقة له بما جاء في الطائف، الذي لم تُطبّق كامل بنوده.
فلو طُبّق الطائف كما هو، نصًّا وروحًا، لما كنا نسمع اليوم من يطالب باللامركزية الموسعة ماليًا واداريًا وحتى سياسيًا، ولما كان لمن يطالب بـ “مؤتمر تأسيسي” آذان صاغية في بعض الأوساط، ولما كان طرح “الفيديرالية قد تقدّم على ما عداه من طروحات غير وحدوية.
وهكذا لم يسلم هذا الاتفاق من “شرّ” أحد، لأنه قد أصبح لكل طائفة “طائفها”. فمصلحة الطائفة طغت على المصلحة الوطنية الصرفة، بعدما بات الانتماء إلى الطائفة يتقدّم على الانتماء إلى لبنان الواحد الموحَد بشعاراته وأهدافه ورؤياه ومستقبله.