خلال خطابهِ الأربعاء، ثبَّت الأمينُ العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله قاعدة “ميزان الرّدع” مع إسرائيل، معتبراً أنّ الفترة التي تلت حرب تمّوز عام 2006 شهدت على تقوية هذا الميزان ونموّه، والسبب في هذا الإطار يعودُ إلى تعاظم قوّة “المقاومة” عسكرياً، على حدّ قوله.
بين 12 تمّوز 2006 و 12 تموز 2023، تبدّل الكثير من المعادلات، وبات “حزب الله” في مكانٍ آخر. خلال الحرب التي استمرّت 33 يوماً، كان الحزب يخوض معارك باتت تُعدّ اليوم “قديمة” من حيث الأسلحة المستخدمة خلالها، فيما كانت تُعدّ حينها ذات مستوى عالٍ من الدقَّة. كذلك، كان “حزب الله” آنذاك ساعياً إلى تثبيت معادلاتٍ عسكرية فرضت نفسها بقوّة على العدو الإسرائيلي، فكان إختبارُ الميدان هو أكبر دليلٍ على ذلك. الأساسُ في العام 2006 هو أنّ حزب الله إمتحنَ قدراته بعد تحرير العام 2000، ومن خلال التطوّر العسكري الذي حظيَ به على مدى 6 سنوات حينها، استطاع أن ينتزعَ القدرة على “إذلال” الجيش الإسرائيليّ على أكثر من جبهة وتحديداً على خارطة المواجهة البرّية والبحرية أيضاً .ما قدَّمهُ “حزب الله” آنذاك وجدت إسرائيل فيه ضربة قاضية لها، وللإشارة فإنّ الحزب حينها لم يستخدم صواريخ دقيقة، ولم تكن هناك صواريخ طويلة المدى ودفاعات جويّة. ورغم ذلك، كان “التقهقر” الإسرائيليّ قائماً وسط قدراتٍ قتاليّة تعتمدُ على أسلحةٍ كانت جيدة حينها، لكنها لا تُقارن بتاتاً مع مستوى العتاد المتوافر اليوم في مخازن “حزب الله”.
ما الذي اختلف بين تمّوز الـ2006 والـ2023؟بين التاريخين، يبرزُ عنوانٌ تطويري للمشهدية العسكرية بالدرجة الأولى. على صعيد “حزب الله”، باتت الأسلحة لديه أكثر تطوراً وأشدُّ إيلاماً للعدو. كذلك، دخل عنصرٌ سيغير المعادلة على صعيد الحرب الجوية، فالحزبُ بات يمتلك منظومة صواريخ روسية من طراز “أس أي 8″ و”أس أي 22” بإمكانها تقويض حركة سلاح الجو الإسرائيلي فوق لبنان. أضف إلى ذلك، باتت في مخازن صواريخ الحزب كميّات هائلة من القاذفات الدقيقة، فيما لا يمكن أبداً إغفال الصواريخ التي بإمكانها إستهداف العمق الإسرائيلي كصواريخ “زلزال 1″، “زلزال 2” وصاروخ “فاتح 110” وغيرها. كذلك، تتجلى بشكلٍ كبير القدرات الدفاعية والأسلحة المضادة للدروع، فيما تأتي المُسيّرات والطائرات من دون طيّار التي بإمكانها أن تقلب المعادلة الجويّة رأساً على عقب. أما الأهم، فهو أنّ “حزب الله” بات مُدرباً أكثر على خوض هجمات سيبرانية إلكترونية بإمكانها تعطيل منظومات دفاعية إسرائيليّة، فضلاً عن تأسيس وحدات هجوميّة متخصصة بإقتحام الأراضي الفلسطينية والوصول إلى العمق الإسرائيلي، وغيرها من الأمور الأخرى السرية وغير الظاهرة للعلن.
ما قيل هنا عن الترسانة العسكريّة يعتبر جزءاً بسيطاً من مقدرات الحزب، وبالتالي فإن ما جرى تقديمه يُعدّ “غيضاً من فيضاً”. صحيحٌ أن حرب تموز أظهرت تكتيكات عسكرية كثيرة، لكن الأمر اختلف تماماً وازداد أكثر تعقيداً الآن بالنسبة للإسرائيلي. واليوم، فإن ما يجعل الأمور صعبة على تل أبيب هو تمترس الحزب على طول الحدود وعند بقعٍ جغرافية قريبة جداً من السياج الحدودي. الأمرُ هذا تخشاه إسرائيل بشدّة وترى أنها خاضعة لأنظار الحزب ووحدات النخبة فيه. أما ما يزيد القلق أكثر هو أنّ الحزب بات يتعاطى بأريحيّة مُطلقة وظاهرة على أرض الجنوب، والدليل على ذلك هو إجراء مناورة مكشوفة قبل شهرين، ونصب خيمتين عند الحدود في مزارع شبعا منذ نحو 3 أسابيع بسبب التوتر المرتبط بوضع بلدة الغجر واحتلال إسرائيل الجزء الشمالي منها. عملياً، هنا تكمُن المفارقة، فالحزب أسّس لقوّة ظاهرة ولا يمكن المساس بها، فيما يعاني الجيش الإسرائيلي من تآكلٍ على صعيد الرّدع، والدليل على ذلك هو أن الخميتين ما زالتا تقلقان تل أبيب وتدفعانها للحلحلة الدبلوماسية بعيداً عن الحرب.. وهنا، ألا يُعدّ هذا الأمرُ تبدلاً؟ في السابق، كان من الممكن أن تشن إسرائيل عدواناً على لبنان وتستغلّ ما تريد لصالحها.. أما اليوم، فقد بات هذا الأمرُ صعباً لعوامل أساسية أبرزها عدم وجود أي قدرة إسرائيلية لفتح جبهةٍ مع لبنان في الوقت الراهن، وثانياً هناك قرار دولي لضمان الإستقرار.
الأهم من هذا كله هو أنّ “حزب الله” بات يعتمدُ على إثارة الخوف لدى الإسرائيلي من خلال حرب نفسيّة متطورة من حيث الأدوات وتحركات داخلية حصراً. عملياً، فإن هذا الأمر يخدم لبنان، فالحزب بعملياته التي يقوم بها، يترك أثراً مُخيفاً عند الإسرائيليين بدلاً من شنّ حرب هنا أو معركة هناك. وبشكلٍ أو بآخر، فإنَّ “حزب الله” بات ينأى بنفسه عن الهجوم المفتوح ضدّ العدو مثلما حصل عام 2006، والسبب هو أنه لا يريد تحمّل “ذريعة” بدء شرارة الحرب. ضمنياً، قد يكون الحزب ومن خلال تحركاته في الجنوب يدفع إسرائيل نحو إتمام ما لم تتجرأ على إتمامه، والمقصود هنا التفاوض على إنهاء التوتر بشأن الغجر التي تمسّك نصرالله بلبنانيتها أمس، وإبداء ليونة حول إمكانية بحث ملف الحدود البريّة أسوة بالحدود البحرية التي جرى الإتفاقُ على ترسيمها الحدود البحرية سابقاً.إلى جانب كل ذلك، فإنّ الحزب ومن خلال ما فعله، استطاع تبديل منحى المعركة، فباتَ في موقع المُرتاح من خلال ما يطرحه ميدانياً. فعلى سبيل الردع، أصبح الحزبُ حالياً أكثر قدرة على إيفاد رسائل حاسمة لإسرائيل من دون أي طلقة رصاص. إلا أنه في الوقت نفسه، يسعى الحزب إلى إقلاق راحة العدو من خلال “حركشة” هنا و “حركشة” هناك. ولكن، يبقى أمرٌ أساسي لم يكن موجوداً خلال حرب تموز 2006، وهو أن الحزب تلقى تدريباتٍ مكثفة خلال الحرب السورية عام 2011، وبسبب ذلك تمكّنت عناصر الحزب من اكتساب خدمةٍ جديدة تُضاف إلى سجلاتهم. أما الأهم من كل ذلك هو أنه باتت لدى لبنان أوراق قوة تتصل بالغاز البحري، علماً أن إسرائيل تستفيد من ذات المادة عبر حقولها التي باتت تعتبرُ هدفاً دقيقاً للحزب. وبكل ثقة، كل ذلك لم يكن عام 2006، ولهذا تعتبرُ المواجهة اليوم اصعب بثكير..في الخلاصة، يمكن القول إن التبدلات كثير ة جداً، ويكفي فقط أن ننتظر.. والسؤال: هل ستدق ساعة الحرب حقاً قريباً؟ كيف سيكون وجه المعركة وما هي المنشآت التي لا يمكن للطائرات الوصول إليها؟ المستقبل كفيلٌ بالإجابة..