وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين بمناسبة بداية رأس السنة الهجرية الجديدة، وجاء فيها:”ولأنَّ الهِجْرِةَ النَبَوِيَّةَ الشَّرِيفَة ، تَقَعُ في وَعْيِ المُسْلِمِين، بَينَ ثَلاثَةِ اعتبارات : اِستِمرَارُ الكِفَاحِ مِنْ أَجلِ حُرِّيَّةِ الدَّعوَة ، وَحُرِّيَّةِ القَولِ وَالعَمَل ، وَمُغَادَرَةُ الدَّارِ
وَالمَوْطِن، مِنْ أَجْلِ إِحقَاقِ ذَلِك – وَالسَّعْيِ لِإقامَةِ (الأُمَّةِ مِن دُونِ النَّاس) التي أَعْلَنَ عَنهَا رَسُولُ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليه ، في كِتَابِ المَدِينَةِ بَعدَ الهِجرَةِمُبَاشَرةً . والاعتبارُ الثَّالِث : الاقتِدَاءُ بِتَجْرِبَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في إِقَامَةِ الدَّولَةِ الجَامِعَةِ والقَوِيِّةِ والمُتَمَاسِكَة ، برغمَ الاخْتِلافِ الدِّينِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيّ ، وَتُؤَسِّسُ وُجُودَها وَقَرَارَاتِهَا على التَّعَاقُدِ الذي يُشْرِكُ الجَمِيع ، وَلا يَسْتَثْنِي فَرِيقاً أو أحداً إذا كَانَ مُوَافِقاً على المُشَارَكَة .مَا شَهِدَ لبنانُ إِلا في النَّادِرِ هذه المَلَفَّاتِ المُتَشَابِكَةَ وَالمُعَقَّدَة ، في الأَمْنِ الوَطَنِيّ ، وفي الاقْتِصَاد ، وفي العَمَلِ السِّيَاسِيّ ، وفي عَلاقَاتِهِ العَرَبِيةِ وَالدَّولِيَّة. وهذا التَّعَقُّدُ في المَلَفَّات ، لهُ ثَلاثُ عِلَل: إِصْرَارُ كُلِّ فَرِيقٍ على جَذْبِ المِيَاهِ إلى طَاحُونِهِ وَحْدَه ، وفي الصَّغِيرَةِ قَبلَ الكبيرة . ولذلك ، تَتَكَاثَرُ التَّجَاذُبَاتُ وَالنِّزَاعَاتُ إلى مَا لا نِهَايَة . وإذا كان هذا الأمرُ خَطَأً في أَسالِيبِ مُوَاجَهةِ الاخْتِلافَات ؛ فإنَّ العِلَّةَ الأُخْرَى أَكْبَرُ وَأَفْجَع، وَتَتَمَثَّلُ في اسْتِمْرَارِ الخِلافَاتِ بِشَأْنِ الثَّوَابِتِ التي لا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَمِرّ، لأَنَّهَا تُشَكِّلُ ضَرباً لِلأُسُسِ التي يَقُومُ عليها العَيشُ المُشتَرَك ، وَتَقُومُ عليها الحَيَاةُ الوَطَنِيَّةُ الاجْتِمَاعِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّة .أيها المسلمون؛ أيها اللبنانييون:فَوقَ أَزَمَاتِنا الوَطَنِيَّةِ المُتَكاثِرة، نَعيشُ في هَذِه الأيامِ أَزْمَةً جديدةً، هي الأَسْوَأُ وَقْعاً : اِنْتِخَابُ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريَّة . وهذهِ الأزْمَةُ بِالذَّات ، ما كانَ لها دَاعٍ . فالجَمِيعُ يقولونَ بِالطَّائفِ والدُّستور. والدُّستورُ حَدَّدَ مَسَاراً واضِحاً لانْتِخاباتِ الرَّئيس ، فلماذا لا نَتَّبِعُ هذا المَسارَ الوَاضِح ، دُونَمَا اتِّهاماتٍ مُتَبَادَلَة ، وتَعْطِيلِ ما لا يَصِحُّ تَعْطِيلُه ؟ما يَجرِي اليومَ على السَّاحَةِ اللبنانيةِ مِن شُغورٍ رِئاسِيٍّ ، وتصريفِ أعمالٍ في الحكومةِ بِالحُدُودِ الضَّيِّقَةِ ، وتعطيلِ انعقادِ جَلَسَاتٍ تشرِيعِيَّةٍ في المَجلِسِ النِّيَابِيّ ، هُوَ مَعِيبٌ بِحَقِّ كُلِّ مَن يُعَرقِلُ إنجازِ هذِه الاستِحقاقَاتِ التي لا يَنْهَضُ البلدُ مِن دُونِ تَحقِيقِها ، وأَوَّلُها انتخابُ رئيسٍ لِيُعِيدَ لِلوَطَنِ مَكَانَتَه، وَلِلمُؤَسَّساتِ تَوَازُنَها ، ولكي نَقولَ لِلعَالَم: نحن كلبنانيين مَهمَا اختَلَفنَا فَسَنَبقَى مُحافِظِينَ على لبنانَ العَربِيِّ الهُوِيَّةِ والانتماء ، وإذا لم نُسارِعْ إلى تَدَارُكٍ هذا الأًمرٍ بٍتنفِيذِ ما ذَكَرْنا آنفاً فإنَّ الشَّرخَ والَّفَتُّتَ والانهيارَ والفَوضَى بشتَّى أَنواعِها سَتَزداد ، كفانا تذاكياً ومُزايدَاتٍ على بَعضِنَا بعضًا، فعلى الجميعِ التَّنازُلُ لِمَصلحَةِ الوَطنِ ، وإلا فنحن ذاهبون إلى الظَّلام، حيث تَنتَظِرُنا الويلاتُ والمَصائبُ التي سَتَقَعُ على الوَطَنِ وعلى جَميعِ اللبنانيين .إنَّ السُّكُوتَ عَنْ مَطالِبِ اللبنانيينَ المُحِقَّةَ جريمةٌ لا تُغتَفَرُ ، وتحقيقُها مُطالَبٌ بهِ كُلُّ مَسؤُولٍ في هذه الدَّولةِ أياً كان مَوقِعُه ، لقد نَفِدَ صَبرُ المُواطِنِ الذي يُعانِي الأَمَرَّينِ في مَعِيشَتِه ، لا نُرِيدُ بَعدَ اليومِ أقوالاً وخطاباتٍ وَمَواقِفَ وتَصَارِيحَ رَنَّانَةٍ لا تُسمِنُ ولا تُغنِي مِنْ جُوع ، بل نريدُ أفعالاً تَنتَشِلُ المُواطِنِينَ مِمَّا هُمْ فيه ، اِنتظرْنا بِما يَكفِي ، صَرخَتُنا اليومَ هي صَرخَةُ كُلِّ النَّاسِ الذين يعانون مِمَّا يَجرِي في وَطَنِنا ، ونحن في نَظَرِنا وفي نَظَرِ كُلِّ اللبنانيين الجَميعُ مسؤولون ويتَحَمَّلون الأَخطَاءَ والخَطَايَا ، رُغمَ تَفاوُتِ الدَّرجَاتِ في المسؤولية. يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ في مُحكَمِ تَنزِيلِه : ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ .إنَّ المَرجِعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ دَورُها وَطَنِيٌّ وَتَوجِيهِيٌّ ، ولم تُقَصِّرْ في رَفعِ الصَّوتِ دائماً لِحَثِّ المَسؤولين على اتخاذِ المُبَادَراتِ والقَرَارَاتِ التي تَهُمُّ الوَطَنَ والمُوَاطِن ، ولكن يَبدُو أنْ ليسَ هناك مِنْ مُجِيبٍ ، وهذا لا يَعنِي أَنَّنَا استسلمْنا لِلأمرِ الوَاقِعِ المُؤلِم ، وسنبقى نُطالِبُ بِهذهِ الحُقوقِ وَنَدعُو دائماً إلى تحقيقِها ، وَنَقِفُ في وَجهِ الظُّلمِ الذي يُلاحِقُ النَّاسَ في حياتِهِم، فَمَا ضَاعَ حَقٌ وَرَاءَهُ مُطالِبٌ ، فَالمُطالَبَةُ بِالحقوقِ أمرٌ مَشرُوعٌ كَفَلَهُ الدُّستورُ .أيها المسلمون؛ أيها اللبنانييون :ولِمُناسَبةِ الهِجرةِ التي صَارَتِ انْتِصَاراً لِمَبادئِ الحَقِّ والعَدل، أَقولُ لِكُلِّ النُّوَّاب ، وَلِنُّوَّابِ المسلمينَ بِالذَّات : أنتُمْ تَشْكُونَ مِنْ قِلَّةِ الوَزْنِ وَالتَّوَازُن ، وما ذلِكَ إلا لِلتَّشَرْذُمِ الذي نَالَ مِنْ وَحْدَةِ الصَّفّ ، وَمِنَ القُدْرَةِ على التَّضَامُنِ وَرِعايَةِ المَصَالِح . لا بُدَّ مِنْ أنْ تَجْتَمِعوا ليسَ لِحِفْظِ حُقوقِكُمْ فقط ؛ بل وَلِتَحْقِيقِ المَصْلَحَةِ الوَطَنِيَّة ، في أنْ يَكونَ لِلُبنانَ رئيس ، تُمَكِّنُهُ الكَفاءَةُ وَالخِبْرَةُ والنَّزَاهَةُ مِنْ أنْ يَتَقَدَّمَ الصُّفوفَ ، لِحَلِّ المُشْكِلاتِ المُتَرَاكِمة . إنْ لم يَكُنْ لكُمْ بِسَبَبِ وَحْدَتِكُمْ وَزْنٌ في انْتِخابِ الرَّئيس العتيد ، فلنْ يكونَ لكُمْ وَزْنٌ في الحُكومةِ ورَئيسِها”.