في خطابه الأخير، فنّد الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله الكثير ممّا يُقال عن موقف الحزب من الاستحقاق الرئاسي، موجّهًا “تطمينات” للشركاء في الوطن، جازمًا أنّه لا يريد تعديل الدستور ولا النظام، ولا يسعى لتغيير اتفاق الطائف، ولا يرغب في استغلال فائض القوة أو استخدام سلاحه لفرض خياراته السياسية، كما نفى أن يكون الحزب قد طلب أي “ثمن”، أو حتى ضمانات مكتوبة، مشدّدًا على أنّ “شخص الرئيس ضمانتنا”.
في الخطاب نفسه، جدّد السيد نصر الله دعمه ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، مشبّهًا وضعه بوضع كل من العمادين ميشال عون وإميل لحود اللذين دعمهما الحزب “انسجامًا مع النفس”، كما كرّر الدعوة إلى الحوار غير المشروط، الذي يشمل الحديث عن الأسماء والضمانات وغير ذلك، على قاعدة “نحن الثنائي وبقية حلفائنا صحيح عندنا اسم واحد هو سليمان فرنجية، ولكن سنتناقش (…) ويمكن أن تقنعونا أو نقنعكم”. ومع أنّ المواقف في صورتها العريضة، بدت تكريسًا لما يكرّره “حزب الله” منذ أسابيع طويلة، من التمسّك بفرنجية، إلى الدعوة للحوار بلا قيد أو شرط، ثمّة من قرأ ليونة قال إنّها “طارئة” على خطاب الحزب، وثمّة من تحدّث عن “تبدّل في الموقف” تعكسها المرونة اللافتة التي أظهرها الأمين العام، ليصبح السؤال مشروعًا: هل غيّر “حزب الله” فعلاً موقفه في الملف الرئاسي؟ وهل يمهّد بذلك لتسوية آتية؟! أين التغيير؟ بالنسبة إلى المؤيدين لـ”حزب الله” والعارفين بأدبيّاته، فإنّ السؤال يجب أن يُطرَح بصيغة مغايرة، على من يتحدّثون عن تبدّل في الموقف، فأين هو التغيير بالذات، علمًا أنّ خطاب السيد نصر الله قام أصلاً على تفنيد الإشاعات والأقاويل، من خلال التأكيد على مواقف مُعلَنة للحزب منذ فتح البازار الرئاسي؟ كيف يكون “حزب الله” قد غيّر موقفه، إذا ما أعاد تكرار المعادلة نفسها: سليمان فرنجية هو الضمانة، والحوار هو الحلّ الأمثل والأنسب؟ قد يكون إيحاء السيد نصر الله بأنّ الحزب “منفتح” على البحث بخيارات أخرى، غير فرنجية، الذي فُتِح خلف السطور، هو ما دفع البعض إلى الحديث عن تبدّل في الموقف، لكن هنا أيضًا لا يبدو التحليل واقعيًا بحسب مؤيدي الحزب، لأنّ ما قاله نصر الله بكلّ بساطة هو تكريس للحوار “غير المشروط”، ما يعني أنّه رفض التخلّي عن فرنجية قبل الجلوس على طاولة الحوار، وهو ما دأب على تأكيده منذ البداية، وما كان يعتبره الآخرون “عقبة” في طريق الحوار. من هنا، يرى هؤلاء أنّ التبدّل في الموقف قد يكون حصل لدى الطرف الآخر، إذا ما اقتنع بأنّ رفض التخلي عن فرنجية سلفًا، وقبل الجلوس على الطاولة، لا يعني “محاولة فرضه” على الآخرين، بل ترك الأمر رهن النقاش والحوار، علمًا أنّ قاعدة “إما تقنعوننا أو نقنعكم” يؤكد عليها المسؤولون في الحزب في كلّ تصريحاته، إلا أنّ الفريق الآخر كان يصرّ على تفسيرها من منطلق أنّ “الحوار هو على هذا المرشح فقط، ولا خيار آخر مطروح للنقاش”. مؤشرات على “تبدّل” لكن، في مقابل تأكيد المحسوبين على “الثنائي” على أنّ أيّ تغيير لم يطرأ، خصوصًا أنّ السيد نصر الله في خطابه، وضع فرنجية في خانة واحدة مع كلّ من الرئيسين السابقين إميل لحود وميشال عون، خلافًا لمن أتى بينهما، في إشارة إلى الرئيس ميشال سليمان، ما قد يوحي بأنّه بات “أكثر تمسّكًا” به ممّا مضى، يتحدّث البعض عن مؤشرات أكثر من معبّرة على حصول “تبدّل حقيقي” في الموقف، بدأ الحزب “يمهّد الطريق” له إن جاز التعبير. قد يكون الحوار بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” أول هذه المؤشرات، إذ إنّ هذا الحوار ما كان يمكن أن يلتئم لو أنّ الحزب لا يزال على تصلّبه، وفق ما يقول البعض، باعتبار أنّ موقف باسيل أكثر من واضح، لجهة رفضه السير بخيار فرنجية، تحت أيّ ظرف من الظروف ومهما كان “الثمن”، وسبق له أن أبلغ الحزب صراحة بـ”عدم جدوى” الحوار، طالما أنّ الحزب يرفض البحث بالخيار الثالث، ما يعني أنّ شيئًا ما تغيّر، ولو لم يترجم بعد. إلى هذا المؤشر، ثمّة من يتحدّث عن مؤشّرات في خطاب السيد نصر الله لها دلالاتها أيضًا، بدءًا من النبرة الهادئة واللهجة الواثقة والسعي للتطمين، وكلّها علامات تدلّ على الاستعداد للتسوية في مكان ما، علمًا أنّ هناك من اعتبر أنّ موقف الحزب “إما تقنعوننا أو نقنعكم” غير مكرّر، فهو كان يُقال سابقًا من باب “رفع العتب”، في حين أنّ سياقه اليوم يمنحه صدقية أكبر، وكأنّ الحزب يقول “يمكن أن نصل إلى قاعدة مشتركة”، وهنا بيت القصيد. يقول “حزب الله” إنّه لم يغيّر موقفه في الملف الرئاسي بل إنّ الآخرين هم الذين تبدّلوا، باعتبار أنهم باتوا أقرب إلى الحوار الذي كانوا يرفضونه. في المقابل، يقول خصومه إنّه يمهّد لتسوية تقوم على التخلي عن فرنجية بالدرجة الأولى، وإنّ خطابه يكاد يشكّل بوابة “الخيار الثالث” المنتظر. وبين هذا وذاك، تبقى الحقيقة “أسيرة” الانتظار، بين اجتماع من هنا، ولقاء من هناك، يُبحَث عن “كلمة سرّ” يمكن أن تتسلّل منهما!