قبل حادثة بشري، التي سقط فيها قتيلان من آل طوق، وقبل أحداث مخيم “عين الحلوة”، وقبل مقتل الياس الحصروني من بلدة عين ابل الحدودية، وقبل وقوع شاحنة محمّلة ذخيرة تابعة لـ “حزب الله” على كوع الكحالة، وسقوط قتيلين على أثر اشكال لا تزال ظروفه غامضة، كان يعتقد اللبنانيون أن “صيفيتهم” ستكون من أجمل الصيفيات، وذلك بعدما قصد الربوع اللبنانية مئات الآلاف من اللبنانيين المغتربين لتمضية فصل الصيف فيها، معتقدين أن وطنهم الأم قد أصبح فعلًا وطنًا كامل الأوصاف الذين يتمنون أن يكون لكل واحد منهم فيه “مرقد عنزة”.
أن تسقط شاحنة على كوع الكحالة، أيًّا يكن نوعها، وأيًّا كانت حمولتها، ليس خبرًا جديدًا. فهذا الحادث ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير، وذلك نظرًا إلى طبيعة هذا الكوع “القاسي”. وأن يكون في هذه الشاحنة، التي انقلبت على ظهرها، ذخيرة تابعة لـ “حزب الله”، وهي من ضمن مجموعة شاحنات، ليس خبرًا جديدًا. فالجميع يعلم أن قوافل “الحزب” تسلك هذا الطريق وغيره من الطرقات لتمرير ما يأتيه من ذخيرة من خارج الحدود. هو يعلن ذلك جهارة، إذ ليس في الأمر ما يشكّل له إحراجًا. ولكن أن ينتج عن هذه الحادثة إطلاق للنار وردّ عليه، وأن يسقط بنتيجته شاب من أهالي الكحالة هو فادي بجاني، وآخر من “حزب الله” هو علي قصاص، مع ما يلفّ عملية تبادل إطلاق النار من غموض والتباس، ليس خبرًا عاديًا، وهو كان الحدث بحدّ ذاته بما كشفه من خلفيات ومن عصبيات اعتقد البعض، عن حسن نية، أنها قد أصبحت من الماضي، وأن صفحة الحروب والفتن قد طويت إلى غير رجعة.
ما حصل في الكحالة ليس حدثًا عادّيًا، ويجب الا يكون بهذه الصفة، لأن تداعياته لن تنتهي عند مراسم الدفن، التي ستقام اليوم في الكحالة، والتي أقيمت بالأمس في الغبيري، ما لم تحزم الدولة بكل أجهزتها أمرها، وتقرّر أن تكون دولة بكل ما لهذه الدولة من مقومات وجودية، وتقرّر ألا تكون غائبة عندما تُستباح أرضها، باعتبار أن أرض “عين الحلوة” لا تزال أرضًا لبنانية، وعندما تقرّر أن ترى الحقيقة في كل ما يجري بدءا ببشري، ومرورًا بـ “عين الحلوة” وعين ابل، وصولًا إلى الكحالة. وفي ذلك تذكير بما حصل على أثر حادثة “بوسطة” عين الرمانة” وما تلاها من تفكّك لأواصر الدولة والوطن، بفعل غياب هذه الدولة، التي لم تكن يومًا من الأيام دولة، وذلك باعتراف الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الذي خلص إلى نتيجة واحدة بعد طول جهاد، وهي أنه فشل في إرساء أسس راسخة لدولة ولوطن يسود فيهما القانون والعدالة. لن أجاري الكثيرين الذين يذكرّون ما يحصل اليوم بما حصل قبل سنوات. ليس تهرّبًا من مقاربة ما في هذا التشبيه من حقائق ووقائع، ولكن خوفًا من أن ترد في ذهني أهوال ما حصل بالأمس، وما نتج عنه من كوارث لم توصل سوى إلى نتيجة واحدة، وهي أن خسارة ما كان يتمتع به لبنان من سمعة طيبة، وخسارة شباب كانوا الأمل، وخسارة وطن قد يذهب فرق عملة ونتيجة تسويات أو صفقات أو مؤامرات أو مكائد، كانت هي الغالبة في الماضي، وستظل هكذا ما دام أبناؤه منقسمين ومختلفين في ما بينهم على أمور كثيرة، إن لم نقل إن خلافهم الأساسي هو على تحديد “جنس الملائكة”، فيما أسوار الوطن تُدّك تمهيدًا لإسقاطها. فلا توقظوا شياطين الفتنة. لا توقظوا من كان السبب في خراب بلد كان يُعرف بـ “سويسرا الشرق”. لا توقظوا من لا يريد أن يتفق اللبنانيون في ما بينهم. لا توقظوا أعداء لبنان، وهم كثر. لا توقظوا المتضررين من صيغة لبنان الفريدة. لا توقظوا الحاقدين والحسّاد. لا توقظوا كل من لا يريد أن يعود لبنان ليقف من جديد على رجليه. لا توقظوا كل هذا الشرّ المتربص باللبنانيين.