ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس. بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “نسمع في إنجيل اليوم مثل الكرامين القتلة، الذين ائتمنهم صاحب الكرم على رزقه، فلم يكونوا أمينين، بل أرادوا الاستيلاء على كل شيء، وفي سبيل ذلك لم يمنعوا أنفسهم عن قتل كل من أرسلهم رب الكرم لجمع المحاصيل، حتى ابنه لم يسلم من إجرامهم. يذكرنا هذا المثل بعمل الله عند خلق الكون. لقد خلق الله كل شيء، وبعد ذلك خلق الإنسان ليعتني بالخليقة، لكنه لم يكن على قدر كاف من المسؤولية، فعاث فسادا في وسط الأرض. في مثل اليوم، غرس رب البيت الكرم، وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة وبنى برجا ثم سلمه إلى عملة للاهتمام به والمحافظة على ما أعطاهم، لكنهم لم يجتهدوا في عمل الأرض، حتى بعد أن تنعموا ببركاته الكثيرة. رب الكرم لم يهمل أي تفصيل يتعلق بالعناية بالعملة، لكن تصرفهم تجاه خيريته كان إجراميا منذ البداية”.
أضاف: “إن الله هو رب البيت الذي غرسنا نحن البشر في كرم محبته وحوطنا بسياج تعاليمه وكتابه المقدس وانبيائه ورسله وقديسيه لكننا أهملنا تعاليمه وعصينا كلمته ولم نكن أمناء لمحبته. الله الآب، أرسل الأنبياء ليعيدوا الشعب إليه، ويساعدوهم في خلاص نفوسهم، إلا أن الشعب كان جاحدا، فذبح الأنبياء ورجمهم وقتلهم، ومع ذلك لم يشح الله بوجهه عن شعبه، بل أرسل لهم ابنه الوحيد ليخلصهم. يقدم الرب يسوع هذا المثل ليظهر لليهود، ولنا من بعدهم، أن الدينونة ستكون عظيمة، إذ نال اليهود اهتماما كبيرا من الله، ونحن ننال هذا الاهتمام حتى الساعة، لكننا مثلهم نوجد أسوأ من الزناة والعشارين الذين سيسبقوننا إلى الملكوت بحسب قول الرب يسوع”. وتابع: “اليوم، لا نرى سوى جنونا يملأ الأرض كلها، بشرا يحقدون ويظلمون ويقتلون، يشنون حروبا عبثية، إن فعلية أو كلامية، لإرضاء غرورهم وكبريائهم، ناسين أنهم خلقوا على صورة الله ومثاله، وأنه أرسل الأنبياء وابنه الوحيد والرسل، ولا يزال يرسل المكرسين ليساعدوهم في خلاص نفوسهم، لكن جل ما يفعله البشر هو محاربة القيم ودوس المبادئ وتخطي الأخلاق وإرساء مفاهيم مزينة وملونة لتجميل الخطيئة، حتى يستهلكها الناس دون تأنيب ضمير أو إحساس بالابتعاد عن الله. أصبحوا يتكلمون بلسان الله قائلين إنه يقدس الحرية إذ هو منحها للإنسان. صحيح أنه خلقنا أحرارا، وجعلنا أبناءه، لكنه منحنا عقلا وفهما وضميرا وروحا من روحه لكي نبقى مقدسين، ونقدس الخليقة معنا. هذا ما لم يفعله الكرامون القتلة، الذين اشتهوا المال والممتلكات فقتلوا الأنبياء والابن الوحيد، وهذا ما يفعله إنسان اليوم، الذي يعيد الكرة من أجل شهرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو زعامة من أي نوع، أو مركز يصل عبره إلى مبتغاه. إنه يستعبد البشر الذين خلقهم الله أحرارا، مستخدما الله نفسه من أجل تحقيق أهدافه الشيطانية”. وقال: “يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه «كان على الكرامين أن يسرعوا لطلب المسامحة على آثامهم، إلا أنهم كانوا يتشبثون بخطاياهم السابقة، ويتمرغون في حمأتهم. فهم يخفون آثامهم الأولى بآثام لاحقة». أليس هذا ما نشاهده حولنا اليوم، في كل المجالات، أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا وماليا… ألا نجد قادة وزعماء وسياسيين ومحتكرين ومتاجرين بحياة الناس وأرواحهم يستغلون الناس من أجل مصالحهم؟ ألا نرى مسؤولين يخطئون في خططهم أو في إدارتهم، ولا يعتذرون، بل يزيدون الطين بلة بوضع خطط أسوأ أو بإدارة أسوأ، لا تعود على أحد بالخير. ألا نشاهد الذين يجاهرون بانحطاط الأخلاق يعمقون الهوة بينهم وبين الله، ويجرون معهم أبرياء يوقعون بهم، وعندما يواجههم أحد بأخطائهم لا يعتذرون أو يتوبون، بل يؤلبون الشعب كما فعل الفريسيون والكتبة قديما ضد المسيح”. أضاف: “العودة عن الخطأ فضيلة. هذا هو سر التوبة والاعتراف الذي يعيد الخاطئ إلى أحضان الرب. القديسون لم يولدوا أبرارا، بل كانوا بشرا خاطئين، لكنهم عاشوا التوبة الحقيقية فتألهوا وأصبحوا شفعاء لنا وأمثلة نحتذي بها. الجميع يعرف سيرة القديسة مريم المجدلية أو مريم المصرية، والقديس موسى الحبشي وسلوان الآثوسي وغيرهم من القديسين الذين أخطأوا في حياتهم لكنهم تابوا وتقدسوا، والرب قبلهم. لهذا، لا يخش أحد منكم العودة إلى أحضان الرب، مهما شعر بأن خطاياه عظيمة، لأن الملائكة تفرح بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 10). الله ليس مرعبا، ومثل إنجيل اليوم واضح من هذه الجهة، إذ يرينا الفرص الكثيرة التي يمنحها الله لشعبه حتى يعودوا إليه ويخلصوا. فما علينا إلا أن نقبل الخلاص أو نرفضه، ولكل من هذين الخيارين عواقبه التي نكون نحن من جلبناها على أنفسنا، وليس الله”. وتابع: “الطفلة نايا البريئة التي كانت تلهو في ملعب مدرستها فارقت الحياة لأن إنسانا عديم المسؤولية والأخلاق ارتأى أن يطلق النار إما ابتهاجا أو غضبا أو حزنا. هل هكذا يعبر الإنسان عن فرحه أو حزنه أو غضبه؟ وهل موت إنسان بريء يشفي غليله ويخفف معاناته؟ إطلاق الرصاص في المناسبات وكلما شاء أحدهم التعبير عن حالة ما هو عمل مرفوض ومدان، وعلى السلطات المختصة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع هذه الظاهرة ومعاقبة كل من يقوم بها. إن الطفلة نايا ضحية للإجرام واللامسؤولية. وهي ليست الضحية الأولى أو الوحيدة. لقد أصيب أبرياء كثيرون، ومنهم من فارق الحياة. متى يكف اللبنانيون عن استعمال السلاح عشوائيا؟ متى ستضبط الأحزاب عناصرها؟ ومتى ستضطلع الأجهزة الأمنية بدورها كاملا؟ ومتى سيحكم القضاء قبضته على كل من تسول له نفسه استرخاص حياة الأبرياء؟ أين القانون وهيبة القضاء؟ أين الدولة من هذا الفلتان؟ وأين العدالة من هذه الفوضى المستشرية؟ إنه انحلال أخلاقي يستهين بكل شيء حتى الحياة. إنه عنف مجاني لا ينفع أحدا وتخلف ما بعده تخلف”. وختم: “دعوتنا اليوم أن نعود إلى ذواتنا، ونكون صادقين مع أنفسنا، أمناء لخالقنا، لا نساهم في صلب المسيح مجددا، بل نعيش فرح القيامة والخلاص. لهذا، علينا أن نقرأ الكتاب المقدس، ونعيد قراءته، لكي تبقى كلمة الله مغروسة في قلوبنا ونفوسنا وأذهاننا، فنتقدس، ونقدس الخليقة، ولا نكون كالكرامين القتلة الذين أعماهم طمعهم وشهواتهم وغرائزهم فغاصوا في الخطيئة ولم يتوبوا فنالوا جزاءهم”.