في السياسة لا شيء اسمه صدفة. وقد تكون الصدفة خير من ألف ميعاد. وحده اللبناني يعيش بالصدفة. فهو يعيش كل يوم بيومه. يعيش من دون أفق، ولكن ليس من دون أمل. له مع كل “طلعة” شمس موعد مع مشكلة جديدة غير محسوبة في يومياته، التي لا تخلو من تعقيدات تجعل حياته غير مستقرّة وغير منتظمة. ومع أنه يسمع كلامًا سياسيًا كثيرًا ومكرّرًا كل يوم عن حلول لهذه المشاكل فإن حياته الملبّدة بالغيوم تزداد تعقيدًا من دون أن يلوح في الأفق ما يبشرّ بانفراجات قريبة ومرتقبة، أقّله بالنسبة إلى الاستحقاق الرئاسي. فهو يعيش منذ ما قبل تسعة أشهر تقريبًا من دون رئيس للجمهورية، ومن دون ضوابط لتفلتّ أسعار السلع الاستهلاكية، على رغم ثبات سعر صرف الدولار، وعلى رغم ما تحاول الحكومة القيام به، ولو بإمكانات محدودة جدًّا.
فلكثرة ما مرّ على هذا اللبناني من تقلبات ومن مبادرات، جلّها غير مجٍد، أصبح خبيرًا سياسيًا من الطراز الأول. فهو يعرف “البير وغطاه”، وليس في حاجة إلى الاستماع إلى من ينظّر عليه في السياسة، وقد أصبح عدد المنظرّين والمحللين يفوق ما هو غير قابل للعدّ والاحصاء. فهو يعرف، وربما قبل أن يعرف بعض السياسيين، ماذا حمل معه آموس هوكشتاين من ملفات ومن اقتراحات، حتى وقبل مجيئه. وهو في غنىً عمّن يخبره بما قاله وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان للمسؤولين الذين التقاهم. هو يعرف أكثر مما قيل ومما سيقال. لقد أصبح اللبناني على دراية بكل الأفكار، التي حملها معه الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان في زيارتيه الأخيرتين، ويعرف ما الذي سيطرحه في “جولته الأيلولية”.
هذا اللبناني يريد أن تؤدي زيارة هوكشتاين إلى أمر واحد لا غير. لا يهمّه كثيرًا أين تناول فطوره ومع من. يريد أن يعرف بكل بساطة أن الغاز الذي سيتمّ استخراجه من “البلوك” رقم 9 ومن غيره من “البلوكات” لن يذهب مع الريح كما تبخرّت مدخراته. يريد أن يطمئن إلى أن عائدات هذا الغاز الموعود به لبنان لن يُستثمر إلاّ في موقعه الصحيح والسليم، وألاّ يكون سببًا إضافيًا لتفشّي الفساد والهدر. ما يريده كل لبناني قلق على مصيره أن يعرفه من خلاصة زيارة وزير خارجية إيران حسين عبد الأمير اللهيان هو كيفية ترجمة الاتفاق السعودي – الإيراني إقليميًا في لبنان، وطريقة “تقريش” هذا الاتفاق في مجال اقناع من يمون عليهم بأهمية أن يكون في لبنان رئيس للجمهورية يستطيع أن “يلبنن” التوجهات الإقليمية، فيعرف الجميع أن بتنازلهم ونزولهم من على أشجارهم يربح لبنان، كل لبنان. ومتى ربح هذا “اللبنان” يربح الجميع. فما نفع أن يربح المرء كل شيء ويخسر وطنه. أمّا ما يريده هذا اللبناني من لودريان فحدّث ولا حرج. فإذا كان ذاك الآتي من على ضفاف “السين” يحمل معه عصًا سحرية فما عليه سوى أن يضرب بها الأرض فتتزلزل من تحت أقدام الذين لا يزالون يعرقلون انتخاب رئيس. فكل واحد منهم يريده أن يحمي له ظهره فيما ظهر لبنان مكشوف على كل الاحتمالات، ونميل إلى التصديق بأن ما هو آت أفضل بكثير مما سبق. المطلوب رئيس يحمي ظهر لبنان وظهر جميع اللبنانيين من غدرات الزمن، وما أكثرها. وعندما يشعر جميع اللبنانيين، إلى أي فئة انتموا، أنهم محميون بالدستور والقانون وحدهما، يستطيع الرئيس الآتي من توافقهم، أن يحمي الجميع بقوة الدستور والقانون، وبعدالة الموازين، فيتساوى اللبنانيون في الحقوق والواجبات. فلا يكون صيف وشتاء فوق سقف واحد، ولا يكون في لبنان مواطنان، واحد بسمنة وآخر بزيت. ما ينتظر اللبنانيين في أيلول قد يكون بداية انفراج وبداية حلحلة لعقد الرئاسة الأولى. وإذا كان العكس صحيحًا فإن الأزمة آيلة إلى المزيد من التعقيد والتأزيم.