مصالحة الجبل ناقصة ما لم تواكبها مصالحة مسيحية – مسيحية حقيقية

8 سبتمبر 2023
مصالحة الجبل ناقصة ما لم تواكبها مصالحة مسيحية – مسيحية حقيقية


أحسب أن البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، “المُعطى مجد لبنان”، سيطأ أرض الجبل هذه المرّة لا كما وطأها في المرّات السابقة. فما بين الزيارتين مسافة قد تُقاس بالدقائق بالنسبة إلى بعض الذين لم يصدّقوا يوم رأوا المثلث الرحمات البطريرك التاريخي مار نصرالله بطرس صفير يترجّل من سيارة قادته من مقرّه الصيفي في الديمان إلى بيت الدين والمختارة، وقد أعياه التعب وأثقلت الهموم كاهله. أمّا الذين لم يعتبروا كثيرًا من معاني الزيارات البطريركية للجبل فالمسافة الزمنية بالنسبة إليهم تُقاس ضوئيًا.  

 
 
 وما بين هؤلاء وأولئك هوّة سحيقة، لا جسور بين ضفتيها. الفواصل والفوارق كثيرة. وما بين الأمس واليوم فصل من فصول تاريخ سيُكتب في يوم من الأيام. وسيقرأه فقط الذين لا يزالون يؤمنون بأن ما بين أهل الجبل أكثر من عيش مشترك. ومن ليس من هذا الجبل لا يمكنه أن يعي ما يعنيه التاريخ المشترك بين مكوناته الطائفية، على رغم بشاعة وفظاعة ما شهده هذا الجبل من مآسٍ وكوارث والآم، وما كلّفته من دماء ودموع. 
 
البطريرك الراعي، الذي يقصد هذا الجبل اليوم لتثبيت مصالحة لم تكن لتحصل لولا شجاعة وحكمة البطريرك صفير، يدرك ما تعنيه هذه الزيارة لبيت الدين وبعقلين والمختارة. هو يعرف كما كان البطريرك صفير يعرف أيضًا، أنه لم يكن هيّنًا على أبناء الجبل، دروزًا ومسيحيين، أن يتصالحوا. لم يكن من السهل عليهم أن يتصافحوا. لم يكن طبيعيًا أن يتسامحوا ويتصارحوا. لم يكن متوقعًا أن يعود إلى قريته من هُجّر منها بالقوة. لم يكن أمرًا عادّيًا أن نسمع الزغاريد، ونرى نثر الأرز والورود والرياحين، ونشمّ رائحة العطور وماء الورد وماء الزهر، وأن تعلو صيحات الترحيب بالضيف، وهو من أهل البيت.  يحّل البطريرك الراعي اليوم على الجبل ضيفًا، وهو ليس بضيف. يحّل راعيًا بين أهله، دروزًا ومسيحيين. يحلّ وفي نفسه شيء من عصارة ألم، والكثير من الحزن على وطن يكاد يضيع، وفي نظراته الكثير الكثير من الحسرة. 
 
وهو جالس بين أهله سيتطلع في وجوه من حوله، وسيلوح بيديه للذين يلوحون له، وسيبادلهم التحية، وسيعلو على وجهه فرح اللقاء، ولكنه فرح ناقص وغير مكتمل.  كان يأمل في أن تأتي هذه الزيارة اليوم وعلى رأس البلاد رئيس. كان يأمل في أن يرى بين مستقبليه أبناء رعيته مجتمعين وموحدّين. في هذه اللحظات السريعة والخاطفة تمرّ أمام عينيه وفي شكل تسلسلي ما يعانيه أهل الجبل، ومعهم جميع اللبنانيين، في الجنوب والشمال والبقاع وفي العاصمة، منذ أكثر من ثلاث سنوات متتالية. فالأزمات تتوالد وتتعمّق وتتكاثر. المشاكل الاقتصادية والمالية والاجتماعية أكبر من قدرة أي انسان على تحمّلها. كيفما تطّلع سيرى ما في عيون مستقبليه من قلق ممزوج بفرحة اللقاء، ولو مؤقتة. وسيقرأ ما تقوله شفاههم، وإن لم تُسمع الأنّات.
 
كيف يمكن الاطمئنان إلى المستقبل مع ما يُشاع عن تزايد أعداد النازحين السوريين؟  كيف يمكن الركون إلى الوضع الأمني مع توالي الأخبار الأمنية الواردة من مخيم عين الحلوة؟  كيف يمكن أن يستقرّ الحال في غياب أي رؤية حول مصير العام الدراسي، مع ما يرافق هذا الضياع من همّ الأقساط، الذي يفوق بأهميته سائر الهموم، وهي أيضًا مهمّة؟ كيف يمكن الاستكانة لعدم توافر الإمكانات الضرورية لعناصر القوى الأمنية لكي تستطيع الاستمرار بالقيام بمهامها الأمنية على أكمل وجه؟ فمصالحة الجبل ليست مصالحة موسمية يتمّ الاحتفال بها مرّة كل سنة أو سنتين. ليست مجرد ذكرى. إنها نمط عيش كان واقعًا في يوم من الأيام. صحيح أنه إذا كان الجبل بخير فكل لبنان يصبح بخير. ولكن الأصح من هذا الواقع التاريخي هو أنه إذا كان جميع اللبنانيين بخير، ومن بينهم على وجه الخصوص المسيحيون منهم، فإن لبنان يصبح بألف خير. فلو كان هؤلاء المسيحيون بخير فكان لهم ولجميع اللبنانيين اليوم رئيس على رأس جمهورية غير مشّلعة ومفتتة ومنهارة ومهترئة. فكيف يكون لبنان بخير فيما كل بيت فيه خراب بسبب انقسام أهله. فمصالحة الجبل ستبقى ناقصة ما لم تتم مصالحة مسيحية – مسيحية حقيقية.