مبدئيًا، لم تفرز زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الثالثة إلى بيروت أيّ تغيير في المواقف التي كانت مُعلَنة سلفًا، خصوصًا في ما يتعلق بمبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحوارية، التي تبيّن أنّها جاءت “متناغمة ومتكاملة” مع الجهود الفرنسية، لا على “الطرف النقيض” منها، حيث لمس الرجل الانقسام الحاصل بين قوى مرحّبة بالمبادرة ومتحمّسة لها، وقوى أخرى متحفّظة عليها ورافضة لمنطقها.
ومع أنّ لودريان أعلن منذ اللحظة الأولى لوصوله دعمه لمبادرته الرئيس نبيه بري، بل “مباركته” لها، تحت شعار “الحوار ثم الحوار ثم الحوار”، ومع أنّه سعى أيضًا لإقناع مختلف الأطراف بالمشاركة، مع تقديمه “ضمانات شخصية” بأنّ الحوار سيعقبه جلسات انتخابية مفتوحة لا تنتهي إلا بانتخاب رئيس، إلا أن المعترضين بقوا على معارضتهم، رافعين شعار “لا للحوار قبل انتخاب رئيس”.
إزاء هذا الانقسام، نُسِب للودريان قوله ردًا على سؤال لاحد النواب إنّه “يعتقد” أن الرئيس بري سيذهب في نهاية المطاف إلى “حوار بمن حضر”، وهو سيناريو يبدو مطروحًا في الساحة السياسية، ولو أنّ له “شروطه”، فهل أصبح فعلاً مثل هذا الحوار، الذي قد يعتبره البعض “منقوصًا”، الملاذ الأخير، وبالتالي “تحصيلاً حاصلاً”؟ وماذا لو لم يفرز هذا الحوار “المحدود” أيّ اتفاق أو تفاهم؟ هل يتحقّق عندها “وعد” الجلسات المفتوحة؟
الخيار غير محسوم
صحيح أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري ماضٍ كما يقول المطّلعون على الكواليس، بمبادرته الحوارية، على الرغم من الأصداء “السلبية” التي أحاطت بها في بعض الأوساط، ولا سيما لدى قوى المعارضة المسيحية، وفي مقدّمها حزبا “القوات” و”الكتائب”، وصحيح أنّه مبادرته “انتعشت” بعدما تظلّلت بالرعاية الفرنسية الواضحة، خلافًا لكلّ الإشاعات التي حاول البعض بثّها للترويج لوجود “تصادم” بينه وبين الفرنسيّين.
وصحيح أيضًا أنّ الفرنسيين أوحوا بأنّ دعمهم لهذه المبادرة ليس “أحاديًا”، بل إنّه يعبّر عن موقف المجموعة الخماسية بشأن لبنان بأسرها، ومن ضمنها المملكة العربية السعودية وقطر التي يُنتظَر وصول موفد منها إلى بيروت الأسبوع المقبل، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ خيار الذهاب بـ”حوار بمن حضر” إذا ما بقيت القوى المعترضة على موقفها، ليس محسومًا بعد، ولو أنّه مطروح بجدية في الأوساط السياسية كما يقول العارفون.
يوضح هؤلاء أنّ الرئيس نبيه بري يدرس خياراته في هذا السياق، وهو لن يقدم على أيّ خطوة ما لم تكن محسوبة جيّدًا، علمًا أنّ موقف “التيار الوطني الحر” يبقى حاسمًا في هذا الإطار، وهو الموقف الذي لا يطمئنّ له بري كثيرًا، ولو أنّ الوزير السابق جبران باسيل أكّد للودريان ترحيبه بأيّ حوار واستعداده للمشاركة فيه، علمًا أنّه قبل أيام قليلة “شكّك” بفحوى مبادرة بري، وطالب بـ”ضمانات” قبل حسم إمكانية التجاوب معها من عدمه.
سيناريوهات “ما بعد” الحوار
لكنّ الذهاب إلى “حوار بمن حضر”، ولو حضر “التيار الوطني الحر”، يطرح بدوره العديد من علامات الاستفهام، في حال بقيت أحزاب المعارضة على موقفها الرافض، ولو “خرقه” بعض المستقلّين في صفوفها، كما “الحزب التقدمي الاشتراكي”، فهل يكفي فعلاً مثل هذا الحوار للوصول إلى مَخرَج للأزمة؟ وهل يكفي التفاهم بينهم، إذا تمّ، من أجل انتخاب رئيس، رغم أنّ بعضهم يرفع منذ اليوم الأول شعار رفض “فرض” أي فريق للرئيس على الآخرين؟!
ثمّة من يردّ على هذه الأسئلة بطريقة “معاكسة”، عبر التذكير بأنّ قوى المعارضة هي التي “استثنت” نفسها من الحوار والتوافق، وبالتالي فإنّ حُجّة “الفرض” ساقطة هنا، طالما أنّها “أقصت نفسها”، ولم “يقصِها” أحد، لكن في المقابل ثمّة من يسأل عن مدى القدرة على “ترجمة” التفاهم في حال عدم “تصديق” القوى المقاطعة له، ولا سيما إذا ما استخدمت “سلاح” النصاب الذي تقول إنّها قادرة على “التحكّم به”، شأنها شأن الفريق الآخر.
وعلى الطرف “النقيض” من هذه التساؤلات، ثمّة من يسأل عمّا إذا كانت الجلسات المفتوحة “المضمونة” ستتحقّق إن فشل الحوار في الوصول إلى تفاهم، ولا سيّما أنّ هذا المطلب هو مطلب المعارضة في الأساس، فهل سيقدّمه له “الثنائي الشيعي” على طبق من فضّة إذا ما قاطع الحوار، بل إنّ هناك من يعتقد أنّ الحوار بمن حضر قد “يسقط” بسبب هذا الاعتبار، فـ”الثنائي” سيتمسّك بمشاركة الجميع كـ”ثمن مقابل” للجلسات المفتوحة، إن حصلت.
لا تبدو فكرة “الحوار بمن حضر” للكثيرين الحلّ المثالي للأزمة المستفحلة، باعتبار أنّ من شأنه “تعقيد” الأزمة، لا “تسهيلها”، سواء أفرز تفاهمًا ما في صفوف المشاركين فيه، أم انتهى إلى “لا اتفاق”. بالنسبة إلى هؤلاء، لا حلّ إلا بحوار جامِع وشامِل، يضع حدًا لـ”عنتريات” البعض وشروطهم، وكأنّ المطلوب “تسخين” الوضع، بما يسمح برفع الأسقف التفاوضية قبل الجلوس على الطاولة، وهو ما يخشاه الكثيرون عمليًا!