عندما يختلف اثنان على أمر معيّن يتدّخل عادة ممن يُعرفون في القرى بأنهم “مشايخ صلح”، ومن هنا جاء لقب “شيخ”، الذي يُطلق على عدد من العائلات العريقة في لبنان، والتي امتاز أبناؤها بموهبة الإقناع عن طريق التقريب بين وجهات نظر المختلفين والمتخاصمين. ولكي ينجح هؤلاء في مهمتهم كانوا يلجأون بداية إلى الحوار غير المباشر عن طريق عدد من الأصدقاء المشتركين تمهيدًا لحوار مباشر بين المتخاصمين بعد أن تهدأ النفوس. وكان هؤلاء “المشايخ” غالبًا ما يوفّقون في مساعيهم الصلحية. ولولا هذا الحوار المباشر لما كانت مساعي الساعين تثمر، ولما كانت للخصومة أن تنتهي بنهايات سعيدة كما في أغلبية الأفلام الرومانسية والدرامية، حيث غالبًا ما تنتهي المشهدية المسرحية بالمصافحة وبتبادل القبل وبـ “عفا الله عما مضى.
فأين الخطأ في الذهاب إلى حوار يؤدّي في نهاية المطاف إلى دورات متتالية ينتج عنها توافق الحدّ الأدنى على اختيار رئيس لجمهورية تحتاج إلى تضافر الجميع؟ وفق المعطيات فإن “التيار الوطني الحر”، الذي حدّد الإطار الذي يراه مناسبًا لحوار رئاسي فقط، سيشارك على الأرجح فيه وفق شروطه. وكذلك سيفعل “اللقاء الديمقراطي. وفي حال تبلورت صورة الاتصالات، التي سيجريها الرئيس نبيه بري، الذي يريد أن تكون الدورات المتتالية لمجلس النواب، التي تعقب جلسات الأيام السبعة الحوارية، على غرار ما يجري في جلسات انتخابات البابا في الفاتيكان، فإن الدعوة إلى الحوار لن تكون قبل عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، وبعد انتهاء جولة الموفد القطري لبيروت، وما يمكن أن يحمله معه من “أفكار رئاسية”. ولأن مبادرته الحوارية هي “الوحيدة الموجودة على الطاولة وما في غيرها”، سيستمر بري في السعي لـ “إنجاح الحوار، لأنه المدخل الضروري لمعالجة المأزق الرئاسي”. إلاّ أن ما حصل في كواليس اجتماع اللجنة الخماسية في نيويورك قد يؤخرّ المساعي الجارية لاكتمال الحلقات المفقودة في السلسلة الحوارية، على أن يكون القرار الاخير لما تراه الإدارة الاميركية مناسبًا لحل ازمة الشغور الرئاسي. وقد يكون هذا القرار مبنياً على مسار تطور العلاقات السعودية– الاميركية ومفاوضات الملف النووي، لأن الادارة الاميركية يمكن أن تضغط على الدول الاربع في “الخماسية” لطرح الحل الذي ترتأيه للأزمة اللبنانية، وقد يكون في جعبتها اسم المرشح الذي تريد، إلّا في حال أصّر كل من المملكة العربية السعودية ومصر وقطر على أن يكون الخيار الرئاسي عربيًا، بموافقة طبيعية من واشنطن وباريس. ما بات واضحًا، وفق الأجواء التي سادت اجتماع نيويورك، أن ما يراه العرب ويريدونه في لبنان مختلف الى حدّ كبير عمّا تراه وتريده الادارة الأميركية. فالرهان ما زال قائمًا على ما يمكن أن تُقنع به كل من السعودية وقطر ومصر الدول الغربية بالحل القائم على توازانات دقيقة، وعلى وصول التقارب السعودي – الايراني الى حلول نهائية ومقبولة من الطرفين وتكون لمصلحة المنطقة قبل الحديث عن مصالح الغرب. فالرئيس بري مصمم، على ما يبدو، على الحوار، الذي يعتبره الحل الوحيد للأزمة الرئاسية. وهو لا يزال ينتظر تبدّلًا ما في موقف كل من حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” وهو يفضّل أن تنضم هذه القوى المسيحية الفاعلة إلى الجلسات الحوارية الهادفة، وألا تبقى خارجها، على عكس ما يُنقل عن لودريان الذي صارح كلًا من الدكتور سمير جعجع والنائب سامي الجميل بأن الحوار قد يحصل “فيهم أو بلاهم”. وهنا تسأل أوساط مقربة من “عين التينة” القوى المسيحية عن جدوى مقاطعة الحوار، ودعتها إلى المشاركة فيه وعرض ما هي مقتنعة به. وإن لم يعجبها ما يُطرح فيه فما عليها سوى الانسحاب “يللي لاحقين عليه”، خصوصًا أن الرئيس بري يعوّل كثيرًا على مشاركة القوى المسيحية في الحوار، الذي يعتقد كثيرون أنه سيكون من دون “طعمة ولا لون ولا رائحة” إذا عُقد “بمن حضر”.