بالتزامن مع تدفّق الآف النازحين السوريين إلى لبنان في موجة جديدة، اتخذت الحكومة اللبنانية قرارات غير مسبوقة لمواجهة معضلة النزوح، من ضمن خطّة متكاملة وإجراءات على مستوى كلّ الوزارات والمؤسسات المعنيّة والسلطات المحليّة والأجهزة الأمنيّة.
شكلت القرارات الحكوميّة تطورًا لافتًا حيال مقاربة ملف النزوح السوري، الذي بات يشكّل خطرًا وجودّيًا على بلد الـ 10452 كلم مربع، عبّر عنه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أمام أرفع منبر دولي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين، مؤكّدًا أنّ لبنان لن يبقى في عين العاصفة وحده، داعيًا المجتمع الدولي لوضع خارطة طريق لحلّ أزمة النزوح السوري، قبل أن تتفاقم تداعياتها بشكل يخرج عن نطاق السيطرة.
المجتمع الدولي الذي يدفع بقراراته وأمواله لإبقاء النازحين في البلدان المضيفة، يدرك جيدًا أنّ أعداد النازحين المليونية في لبنان، وتبعاتها الديمغرافيّة والأمنيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة، باتت أكبر من قدرة هذا البلد على تحمّلها، لاسيمّا في زمن الإنهيار المالي، ومع ذلك يجاهر ممثلو عواصم القرار بنواياهم وأفعالهم لإبقاء النازحين هنا، وربط عودتهم بحلّ شامل في سوريا، قد لا يتحقّق قبل مرور عقود من الزمن. النظام السوري بدوره لم يفِ بتعهداته التي قطعها في اجتماع عمَّان والقاضية بتسهيل العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين. أمام هذا الواقع، بشقّيه السوري والدولي، كيف يمكن للبنان أن يعالج أو على الأقل يحدّ من النزوح المليوني ويتفادى أخطاره؟
بات لبنان يملك اليوم قرارًا سياسيًا واضحًا في مقاربة معضلة النزوح، لم يكن متوافرًا في السابق، فلننطلق من هنا في تفكيك هذا الملف الضاغط على كلّ الصعد، ولتنفذ الوزارات والبلديات وكافة المؤسسات قرارات مجلس الوزراء المهمة جدًا، لتنظيم الوجود السوري بالحدّ الأدنى، يقول رئيس تحرير مجلة الامن العام عضو المجلس التنفيذي للرابطة المارونية العميد منير عقيقي في حديث لـ “لبنان 24″، لافتًا إلى تبعات النزوح الكارثية على كل المستوياتِ الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية والتربوية والامنية، الأمر الذي يتطلب استنفارًا كاملًا للحدّ من مخاطر النزوح. وفي السياق يشير إلى دور مهم يجب على السلطات المحليّة أن تقوم به لجهة تطبيق القوانين وقرارات مجلس الوزراء، وكذلك مضمون المذكرة التي أرسلها قبل أشهر وزير الداخلية الى المحافظين لتوزيعها على القائمقامين، ومن ثمّ البلديات لتنظيم الوجود السوريين في كلّ بلدة من بلدات لبنان. مضيفًا ” 90% من السوريين المنتشرين في البلدات، لا احد يعرف ما اذا كانوا يملكون اقامات، ومن الملّح التحقق من وضعهم القانوني. علمًا أنّ الأمن العام ومنذ خمس سنوات زوّد البلديات بجداول وبرنامج عبر أقراص مدمجة، لتعبئة الجداول بالمعلومات المتعلقة بالنازحين في النطاق البلدي، ولكن البلديات لم تتجاوب”.اقتصاد خاص بالنازحينيزاحم النازح السوري المواطن اللبناني على لقمة عيشه، ينافسه في سوق العمل، يتجاوز دائرة الأعمال المسموحة بموجب القوانين، ويفتتح مؤسسات تجارية له في القرى والبلدات والمدن “أكثر من ذلك بات النازح يملك في لبنان اقتصادًا رديفًا موازيًا وممسوكًا من قبله، في التجارة والصناعة والزراعة ونقل البضائع عبر الحدود وعمليات التهريب، هذا الإقتصاد الخاص يؤمّن للنازح مداخيل بالدولار، والخطورة أنّ بعض اللبنانيين المستفيدين يؤمّنون تغطية للسوريين من دون أن يدركوا خطورة ذلك على واقعهم على المدى البعيد” وفق ما يشير إليه عقيقي، مصوّبًا على تقاعس المعنيين في وزارات الصناعة والإقتصاد والزراعة والعمل والسلطات المحليّة عن القيام بواجباتها، وتطبيق القوانين الواضحة في هذا الشأن، مشيرًا إلى أنّ تداعيات النزوح ستتفاقم أكثر إن لم تقم الوزارات والبلديات بدورها.
هل يمكن للبنان ترحيلهم؟الدول نفسها التي لا تنفك تُسمع لبنان نظريات غرائبيّة عن وجوب الإستمرار في استضافة النازحين، وتربط عودة هؤلاء بشروط تعجيزيّة وطوعيّة لن تتحقق، هذه الدول المدافعة عن حقوق النازحين خارج حدودها، تتخذ إجراءات صارمة تمنع بموجبها المهاجرين من عبور أراضيها، وتجيز لنفسها ما تحرّمه على لبنان، لدرجة بات اللبنانيون معها يستشعرون وجود مؤامرة دوليّة لتوطين النازحين في أرضهم. بالتوازي تدفع المنظّمات الدولية مبالغ طائلة للنازحين السوريين في لبنان، في وقت يمكن لها أن تنفق هذه الأموال لمساعدة النازحين أنفسهم في بلدهم، الذي بات يضم مساحات آمنة تتخطّى مساحة لبنان بأضعاف مضاعفة. انطلاقًا من المقاربة الدولية المناقضة لمصلحة لبنان، يرى عقيقي أن ليس هناك من حلّ سوى بتكاثف جهود اللبنانيين جميعًا، أي السلطات الرسمية والأحزاب والمجتمع المدني والسلطات المحلية، لاحتواء أزمة النزوح، قبل أن تنفجر براكينها وتصيب حممها الحارقة كلّ أجزاء الوطن وهيئاته ومؤسساته وأبنائه.
في المنحى القانوني يملك لبنان نقاط قوّة، أبرزها أنّه غير موقّع على اتفاقية اللاجئين عام 1951، وفي عام 2003 وقّع اتفاقية مع منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تؤكّد أنّ لبنان ليس بلد لجوء بل عبور. ورغم ما تعانيه مؤسساته من أوضاع ماليّة حرجة، لا زالت قواه الأمنيّة تمنع قوارب المهاجرين المتسلّلة بحرًا إلى الدول الأوروبيّة. لكن في حال بقي المجتمع الدولي لا سيّما الأوروبي يدفع باتجاه بقاء النازحين السوريين في لبنان، وطال أمد الفراغ في لبنان ومعه المزيد من تحلّل المؤسسات، هل تصل الأمور إلى مرحلة فقدان السيطرة على لجم قوارب المهاجرين السوريين باتجاه أوروبا؟هنا يشير عقيقي إلى مسؤولية لبنان في مكافحة الهجرة غير الشرعية، لافتًا إلى أنّه بعد الحرب الأوكرانيّة الروسية، وما أعقبها من تدفق ملايين اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية، تراجعت مفوضية اللاجئين في لبنان عن قبول طلبات اللجوء، ولم تعمد إلى تأمين بلدان لاستضافة النازحين.