عندما قيل إن تغيير القادة العسكريين لا يصحّ عندما تكون المعارك محتدمة لم يكن المقصود يومها الحديث عن قائد الجيش العماد جوزاف عون، بل كان الهدف مواجهة من كان يريد الإطاحة بحاكم المصرف المركزي السابق رياض سلامة قبل موعد انتهاء ولايته الممدّدة بناء على إصرار من الرئيس السابق ميشال عون.
ويوم قيل هذا الكلام لم يكن يتوقّع أحد أن يطول الشغور الرئاسي، ولم يكن أحد يتحدّث عن إمكانية شغور مركز قيادة الجيش، وهو شغور قد يكون في هذه المرحلة الدقيقة والعصيبة التي يمرّ فيها لبنان أخطر من الشغور الرئاسي، لأن الحكومة الحالية، وعلى رغم أنها حكومة تصريف أعمال، تتحمّل كامل المسؤولية، وتتخذ القرارات المناسبة، وذلك منعًا للانهيار التام، وللحؤول دون دخول لبنان في نفق مظلم وطويل لا نهاية له.
لكن هذا الكلام لا يعني أن أحوال البلد يمكن أن تسير طبيعيًا كما لو أن على رأس الدولة رئيس جامع وموحِد، بل للقول إن تغيير الأحصنة لا يتم في منتصف النهر، بل عندما يتمّ اجتيازه بسلامة.
فالذين يعارضون فكرة التمديد للعماد عون لا يعرفون خطورة هذه المغامرة في هذا الوقت بالذات. وهم بمعارضتهم هذه انما يفعلون ما قد تخطر على بال قائد طائرة تحّلق على علو 32 ألف قدم فكرة إطفاء المحركات على سبيل التجربة. فما فعله الرجل طوال تولّيه القيادة لم تشبه شائبة مسلكية. ولم يقدم على أي خطوة مخالفة لما ينصّ عليه قانون الدفاع الوطني إلا باستثناء ما يراه بعض المرائين تجاوزًا للقانون فيما قد يكون ما اتخذ من إجراءات هو للحفاظ على معنويات المؤسسة والعاملين فيها من ضباط ورتباء وجنود. وهذا ما فعله العماد عون بكل شفافية وحسّ بالمسؤولية.
وإذا سلمنّا جدلًا بمنطق هؤلاء المعارضين المعروفة غاياتهم، فهل يستطيع أي عميد في الجيش، مهما كانت مميزاته وقدراته، وهم كثر، تسّلم مسؤولية القيادة في هذا التوقيت غير الطبيعي، الذي يمرّ فيه لبنان. فقيادة الجيوش ليست وظيفة كسائر الوظائف، بل تتطلب تراكمًا للخبرات والمعرفة. وعندما نقول معرفة نقصد معرفة كل شاردة وواردة في مؤسسة حسّاسة، فضلًا عن معرفة شخصية لكل قادة الألوية والوحدات والقطاعات القتالية واللوجستية. وهذا الأمر لا يمكن أن يتمّ بين ليلة وضحاها، بل يتطلب الكثير من الوقت والجهد والتواصل اليومي.
قد يكون استبدال قائد بآخر طبيعيًا في ظروف طبيعية، وبالأخص عندما يخلف رئيس للجمهورية رئيسًا آخر يتم انتخابه وفق ما ينصّ عليه الدستور، ووفقًا للرؤية التي يكون قد وضعها الرئيس الجديد، والتي على أساسها يتم اختياره من بين سائر المرشحين. وهذا ما يُفترض أن يحصل.
فمع دخول لبنان، من دون أن يُسأل عن رأيه في حرب، على شكل مناوشات لا يعرف أحد كيف يمكن أن تتطوّر، خصوصًا أن من نواجهه هو عدو يستفيد من أي ثغرة ممكنة يستطيع من خلالها التمدّد، ولو بأشكال مختلفة، على الساحة الداخلية، سواء عبر خلايا العملاء أو عبر تحريكه الخلايا الإرهابية النائمة، أو عبر خلق فتن داخلية بين اللبنانيين والنازحين السوريين، وفي غياب رئيس للجمهورية، الذي القائد الأعلى للقوى المسلحة، لا يستساغ تغيير القائد، وإن انتهت ولايته.
فإذا تُرك الجيش في هذه الحال من دون قائد أثبت طوال فترة تحمّله المسؤولية أنه كان الرجل المناسب في المكان المناسب، يُخشى حينها من أن تعمّ الفوضى الساحات الداخلية عبر انتقالها من منطقة إلى أخرى، خصوصًا أن الاهتمام منصّب حاليًا على الوضع الجنوبي والاستهدافات الإسرائيلية، وما يرمي إليه هذا العدو المتربّص بنا شرًّا، وآخرها استهداف مجموعة من الإعلاميين.
فإذا كانت لدى بعض القوى مصلحة في إزاحة العماد عون عن الساحة الرئاسية، ولو بتمسّكه بحرفية القوانين وانتقاء منها مع ما يتوافق مع هذه المصلحة باستنسابية واضحة الأساليب، فإن المغامرة بزج الجيش في حقل تجارب قد يكون مليئًا بالألغام والأفخاخ قد تُدخل البلاد في متاهات هي في غنىً عنها، وذلك باعتماد المنطق السليم واللجوء إلى التمديد المقونن للعماد عون. وبهذه الطريقة نكون قد أبعدنا السياسة وما فيها من حرتقات عن المؤسسة الوحيدة، التي لا تزال صامدة في وجه الأعاصير بفعل القرارات الحكيمة، التي تتخذها القيادة الحالية، وهي باعتراف الجميع أنظف مؤسسة.
فما قيل من كلام في الساعات الأخيرة عن هذه المسألة لا يستأهل التوقف عنده لأن قائله معروفة أهدافه السياسية، ولكن ما يمكن المطالبة به في هذا الصدد، وهو ما يردّده العقلاء، هو وقف الحملات المشبوهة والمغرضة ضد القائد الحالي للجيش، والذي يمكن اعتباره ضربًا لهيبة المؤسسة العسكرية ولمعنويات أفرادها والتشكيك بنزاهتها ونظافة الكفّ، وهي عملة نادرة.