بلهجة صارمة وحازمة، توجّه البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى من وصفهم بـ”المعطّلين”، داعيًا إياهم إلى عدم اختلاق أزمات وعقد جانبية “بدلاً من المباشرة الفوريّة بانتخاب الرئيس”، ومشدّدًا على عدم جواز “التلاعب باستقرار المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة الجيش، بروح الكيديّة والحقد والانتقام”، في إشارة إلى الجدل الدائرة حول التمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون.
وبلغةٍ أكثر صراحة ووضوحًا، أكّد البطريرك الراعي على نداء مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك، الذي نصّ على وجوب “عدم المسّ بقيادة الجيش العليا حتى انتخاب رئيس للجمهورية”، وعلى “عدم جواز الاعتداد بما جرى في مؤسسات أخرى تجنّبًا للفراغ فيها”، مثبّتًا بذلك معادلة واضحة قوامها التمديد لقائد الجيش كخيارٍ وحيدٍ تقبله بكركي، لا لستّة أشهر أو لعام، ولكن حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وإذا كان البطريرك الراعي بذلك أراد إيصال رسالة مفادها أنّ تعيين قائد “أصيل” للجيش ليس مطروحًا بالنسبة إلى الكنيسة المارونية، قبل انتخاب رئيس للجمهورية، فإنّه أقرن هذه الرسالة بأخرى قوامها أنّ ما سرى على مواقع مماثلة في مديرية الأمن العام وحاكمية مصرف لبنان لن يسري على قيادة الجيش، رسالة اعتبرها كثيرون موجّهة إلى رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بشكل مباشر، فهل يتلقّفها الأخير، وكيف يفهمها؟!
“خط أحمر”يقول العارفون إنّ كلام البطريرك الماروني في عظة الأحد، التي جاءت استكمالاً لمواقف سبق أن أطلقها في مناسبات عدّة، أتى واضحًا ولا يحتمل اللبس، في غمرة النقاش الدائر حول استحقاق قيادة الجيش، وعلى مسافة أقلّ من شهرين من انتهاء ولاية القائد الحالي العماد جوزيف عون، حيث أراد القول إنّ المسّ بقيادة الجيش في هذه المرحلة مرفوض، بل ممنوع، خصوصًا أنّ الظروف الحالية لا تتيح أيّ “مقامرة” من أيّ نوع.
ولعلّ كلام البطريرك الراعي يكتسب أهميته من “التوقيت” الذي جاء فيه، بعد أسبوعٍ “ساخن” من النقاش حول السيناريوهات المحتملة للتعامل مع استحقاق قيادة الجيش، وبعد مفاوضاتٍ جادّة حول إمكانية تعيين قائد “أصيل” جديد للجيش يخلف العماد جوزيف عون، وهو سيناريو أراد البطريرك الماروني تأكيد معارضته له، قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يفترض أن يكون “شريكًا” في اختيار من يقود المؤسسة العسكرية في عهده.
بهذا المعنى، فإنّ ما أراد البطريرك الراعي قوله بكلامه المكرَّر بلهجةٍ أكثر حزمًا، هو أنّ قائد الجيش “خط أحمر” في المرحلة الحالية، وفق ما يقول العارفون، الذين يلفتون إلى أنّ البطريرك الماروني تعمّد أيضًا الحديث عن رفضه سريان نموذجي الأمن العام وحاكمية مصرف لبنان على قيادة الجيش، لاختلاف الظروف والتبعات، ضاربًا بذلك الحجّة التي يعتمدها “التيار الوطني الحر” في معرض حديثه عن “البدائل المتاحة” قانونًا للتمديد لقائد الجيش.
موقف “التيار الوطني الحر”بالنسبة إلى كلّ من استمع إلى الراعي، أو قرأ ما أدلى به، كانت الرسالة أكثر من واضحة، والمعنيّ بها هو “التيار الوطني الحر” بالدرجة الأولى، وهو الذي يعلن صراحةً رفضه للتمديد لقائد الجيش، ويشهر “الفيتو” في وجه هذا الخيار، ومن خلفه ربما “حزب الله” الذي يتريّث في حسم موقفه، ويوحي بأنه يسير مع ما يتّفق عليه المسيحيون، وكأنّ البطريرك يقول له إنّ التمديد هو ما يريده المسيحيون، ولا شيء سواه.
وإذا كان المسؤولون في “التيار الوطني الحر” يرفضون التعليق على كلام الراعي في العلن، كما يرفضون الانجرار إلى أيّ “سجال” معه، وإن طالته بعض حملات جمهورهم “الافتراضي” على منصّات التواصل الاجتماعي، فإنّ هناك بين المحسوبين على “التيار” من يعتبر أنّ كلام الراعي انطوى على بعض “الظلم” لباسيل، الذي لا يتحمّل مسؤولية تعطيل انتخابات الرئاسة، بل هو من بين قلّة يدعون إلى التفاهم على الانتخاب اليوم قبل الغد.
يؤيد المحسوبون على “التيار” أنّ انتخاب الرئيس هو الحلّ، ولكنّهم يشيرون إلى أنّ الكرة في ملعب “المعطّلين”، الذين يرفضون الحوار مع شركائهم في الوطن للتفاهم، أو الذين يؤجّلون الاستحقاق إلى ما بعد انتهاء حرب غزة، أملاً باستغلال نتائجها لصالح هذا المرشح أو ذاك، لكنّهم يشدّدون على أنّ كلّ ذلك لا يعني أن يصبح “تجاوز الدستور” هو الأمر الطبيعيّ، خصوصًا إذا كان ينصّ على بدائل قانونيّة، تمنع الاهتزاز في المؤسسة العسكرية.
داخل “التيار الوطني الحر” من يقول إنّ باسيل ليس “المعنيّ” بكلام الراعي، فتاريخه يشهد على أنّه “أكثر الحريصين” على المؤسسة العسكرية، ويشدّد على أن “عدم المسّ” بالجيش لا يتمّ عبر التمديد غير القانوني للقائد، بل عبر ضمان استقرار المؤسسة رغم كلّ شيء. لكنّ هذا الكلام يصطدم بآخر، يضع سلوك باسيل في سياق “المقامرة” بالجيش، من أجل “التخلّص” من جوزيف عون، الذي يعتبره “خصمه الشخصي”، وهنا بيت القصيد!