وسط “الجمود السياسي” المسيطر على البلاد، منذ ما قبل بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وترجمته لبنانيًا باشتباكات ومناوشات دامية على الحدود الجنوبية، برزت في الأيام الأخيرة “حركة موفدين” لافتة إلى العاصمة اللبنانية، بدأها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، الذي عاد وحطّ في تل أبيب، واستكملها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، الذي سجّل “سابقة” في عدد الزيارات إلى بيروت، خلال فترة قصيرة نسبيًا.
Advertisement
وإذا كانت زيارتا هوكشتاين وعبد اللهيان بدتا في الشكل والمضمون، مرتبطتين بالحرب الدائرة في غزة، والجبهة المفتوحة بالتوازي في جنوب لبنان، في ظلّ المساعي الأميركية لعدم انزلاق الأمور إلى حربٍ أوسع، والدور الإيراني الذي قد يكون “مؤثّرًا” في هذا الإطار، فإنّ الأنظار تتّجه إلى زيارة “موفد ثالث” بات خبيرًا بالشأن اللبناني، إن جاز التعبير، وهو المبعوث الرئاسي الفرنسي وزير الخارجية الأسبق جان إيف لودريان.
ومع أنّ زيارة لودريان “مجدولة” منذ أكثر من شهرين، حين غادر بيروت على وقع الحديث عن “مبادرة حوارية” حول ملف رئاسة الجمهورية، ترعاها باريس، فإنّ تأخّرها كلّ هذه المدّة يدفع إلى طرح الكثير من علامات الاستفهام، فهل من رابطٍ ما بين زيارة لودريان وزيارتي هوكشتاين وعبد اللهيان؟ وما الذي يدفع لودريان إلى العودة في هذا التوقيت، فيما الاهتمام الدوليّ والإقليمي منصبّ على حرب غزة حصرًا؟!
اختلافات جوهريّة
في المبدأ، لا شكّ بأنّ الزيارات الثلاث إلى بيروت تحمل بين طيّاتها اختلافات “جوهريّة”، وفق ما يقول العارفون، الذين يجزمون بأنّ الملفات التي يحملها كل من الموفدين الأميركي والإيراني والفرنسي، ليست موحّدة، كما أنّ العناوين التي ينطلقون منها لا تتلاقى، وإن تقاطعت على بعض الأهداف الأساسيّة، على غرار الدعوة لعدم توسيع الحرب الدائرة في غزة، وضبط المواجهات في الجنوب، منعًا للذهاب إلى حربٍ لا تُحمَد عقباها.
لكن، حتى في هذا العنوان، ثمّة فوارق جوهرية في “مقاربة” كلّ من العواصم الثلاث المعنيّة بالشأن اللبناني، فالأميركي جاء في إطار “وساطة” لتفادي “الحرب الموسّعة”، ويُقال إنّه لعب دورًا جوهريًا في ثني الأطراف عن “التصعيد القاتل” في الساعات الأخيرة ما قبل الهدنة، في حين أنّ الموفد الإيراني جاء لمناقشة انعكاسات الهدنة على المستوى اللبناني، ولذلك قيل إن لقاءه “الأهمّ” كان ذلك الذي جمعه بالأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله.
أما الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، فيقول العارفون إنّ زيارته لا تندرج في السياق نفسه، وإن كانت حرب غزة وانعكاساتها اللبنانية ستحضر بطبيعة الحال في اللقاءات التي سيعقدها، خصوصًا في ظلّ ما يُحكى عن رغبته بالتأكيد على متانة العلاقات اللبنانية الفرنسية، بعد ما أثير عن أنّ موقف الرئيس إيمانويل ماكرون في الأيام الأولى للحرب دفع كثيرين إلى الدعوة لـ”مقاطعته”، أسوة بمقاطعة الشركات الغربية الداعمة لإسرائيل.
“تعويم” للدور الفرنسي؟
من هنا، قد يكون الهدف الأساسيّ لزيارة لودريان في هذا التوقيت، كما ذكرت مصادر صحافية متقاطعة، هو “تعويم” الدور الفرنسي في الأزمة اللبنانية، باعتبار أنّ باريس التي حرصت في مرحلة لاحقة من الحرب، على “التمايز” حتى عن نظرائها في الاتحاد الأوروبي، خصوصًا بدعوتها إلى وقف لإطلاق النار في غزة، تريد أن تحافظ على “الهامش” الممنوح لها في لبنان، وبالتالي استكمال المبادرة التي أطلقتها قبل أشهر.
وتأتي فرضية “تعويم” الدور الفرنسي لتجد مقوّماتٍ لها، في ظلّ “انشغال” دولة قطر، التي قيل إنّ الكرة انتقلت إليها على مستوى ملف الرئاسة اللبنانية، بالوساطة التي تقودها بالتكافل والتضامن مع مصر والولايات المتحدة في غزة، ما يعني أنّ باريس قد تكون وجدت الفرصة “مثاليّة” للعودة إلى الملف اللبناني، ولمحاولة إحداث “الخرق” مرّة أخرى، لعلّها تنجح هذه المرّة، في ظلّ المتغيّرات في المنطقة، بما عجزت عنه في أوقات سابقة.
وفي هذا السياق، يعتقد العارفون أنّ الموفد الفرنسي سيركّز خلال زيارته إلى بيروت، على وجوب ترك ملفّ الرئاسة “بمنأى عن” حرب غزة، وبالتالي إعادة تحريكه بمعزل عن تطورات الحرب، والهدنة التي لا يُعرف إلى متى ستصمد، وهو سيصرّ خلال لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين على ضرورة العمل لإنهاء الشغور الرئاسي في أقرب وقت ممكن، من دون تبنّي مرشح معيّن، ولا سيما بعدما دخل الفراغ عامه الثاني في الحكم.
يرى البعض أنّ زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي، التي لا يفترض أن تكون مفاجئة، بوصفها “متأخّرة” عن موعدها المفترضة، قد لا تتجاوز حدود “جسّ النبض والاستطلاع”. صحيح أنّها قد لا تختلف في الشكل عن زيارات الرجل الثلاث، لكنّ “استكمال ما بدأه” في المرّات السابقة قد لا يكون عنوانًا واقعيًا دقيقًا لتوصيفها، ليس لأنّ المبادرة الفرنسية “انتهت”، ولكن لأنّ “ما بعد حرب غزة ليس كما قبلها”، كما يقول كثيرون، وعلى كلّ المستويات!