من يراقب كيف تتطور الأمور العسكرية الميدانية، سواء في غزة أو في جنوب لبنان، لا يسعه سوى التوصّل إلى استنتاج واحد، وهو أن نظرية “وحدة الساحات” مثبتة بالوقائع الحسّية. وهذا ما بدا واضحًا من خلال التزام “حزب الله” بهدنة تبادل الرهائن والأسرى، وهو لم يكن طرفًا فيها وغير مستفيد منها سوى بـ “تبريد” مدافعه وإعادة تموضعه على طول الجبهات، التي عادت إلى سخونتها السابقة، وتحضيرًا للمراحل المقبلة.
Advertisement
ووفق المعطيات المتوافرة للقيادتين السياسية والعسكرية في “حارة حريك” فإن المواجهة المتوقعة سيكون لها وجهان، سياسي وعسكري، ولكل مقال مقام لدى هاتين القيادتين. وفي الاعتقاد أن المواجهة السياسية مع الذين يسعون إلى تعديل القرار الدولي 1701 ستكون أصعب من المواجهة العسكرية، وذلك بما يتناسب مع ما يُرسم للمنطقة من مشاريع جديدة في ضوء ما ستسفر عنه حرب غزة في موازين الربح والخسارة، خصوصًا أن الحديث عن إيجاد منطقة عازلة في الجنوب بدأ ينتقل من مرحلة الكلام السرّي في المجالس الدولية الضيقة إلى الضغط العلني.
والمنطقة العازلة بالمفهوم الدولي، وبالتحديد الأميركي، تعني إبعاد “حزب الله” عن خطوط المواجهة، وتحويل المناطق، التي له فيها الأمرة وكلمة الفصل، إلى مناطق منزوعة السلاح، وذلك في محاولة من المهتمين بأمن إسرائيل الشمالي لفرض أمر واقع جديد من شأنه أن يعيد الطمأنينة النسبية، التي كان يعيشها المستوطنون على طول الخط الأزرق طيلة الفترة التي تلت حرب تموز وسبقت حرب غزة.
إلا أن هذا الأمر يبدو غير واقعي طالما أن “حزب الله” هو اللاعب الأقوى في معادلة “توازن الردع”، خصوصًا مع ما يملكه من إمكانات عسكرية وقتالية، وهو القادر على تهديد إسرائيل في عمق عقر دارها في حال لجأت إلى ما تسعى إليه لجهة توسعة رقعة الحرب. وهذه المحاولة قد تلجأ إليها تل أبيب في حال واحدة فقط، وهي عدم قدرتها على تحقيق أي مما خطّطت له في “حربها الغزاوية”.
ولكن إسرائيل، وقبل إقدامها على أي مغامرة في جنوب لبنان، تحسب ألف حساب لما ستكون عليه المواجهة المباشرة مع “حزب الله”، وما ستكون عليه نتائج هذه المواجهة الشاملة، وهي التي خبرت في هذين الشهرين من المواجهات مدى قدرة “الحزب” على إنزال أكبر قدر من الخسائر في المواقع المستهدفة، سواء عبر المسيّرات الانقضاضية أو عبر صواريخ “بركان”، التي أُدخلت حديثًا إلى المعركة.
ما يمكن استنتاجه من كل ما تقدّم أن لا عودة إلى قواعد الاشتباك السابقة، بعدما تحولت جبهة الجنوب إلى خط تماس قتالي يذكر بمرحلة ما قبل عام 1978. قد تهدأ الجبهة لكن قواعدها اختلفت، وهو ما يسلط الضوء على سلسلة التحركات الدولية المرتبطة بحرب غزة وتشمل لبنان. ويضع هذا الواقع الجديد القرار 1701 على نار حامية، ويطرح تساؤلات حول مهمة قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب تماشياً مع الضغوط لتنفيذ القرار والمترافق مع الحديث عن مناطق عازلة. وبينما يتوقع أن تستمر حرب غزة، وقد تطول مع ما تحمله من تداعيات، تحاول الولايات المتحدة تأسيس مسار جديد منفصل على جبهة لبنان، لكنه مرتبط بإسرائيل. وإذا كانت الوجهة هي الاستمرار بالعمل على منع انفجار الجبهة الجنوبية إلى حين تحقيق الأهداف في الملف الفلسطيني، فإن ذلك لا يلغي احتمال الحرب الكبرى، أو العمل على ترسيم منطقة أمنية فاصلة منزوعة السلاح جنوباً، رغم أنه أمر غير متاح حالياً باعتبار أن “حزب الله” لا يقبل بالخروج من ساحته الاساسية.
الأمر وفق المصدر السياسي مرتبط بما سيحدده الاميركيون مستقبلاً، إن كان باستمرار الضغط على إسرائيل لمنعها من شن حرب على لبنان، والبحث مجدداً في ملف الترسيم، إنما بطريقة مختلفة لا تبدو واشنطن في صددها تقديم عروض لـ “حزب الله” لعدم الانخراط في حرب كبرى محتملة، ومنها أثمان سياسية في لبنان.
ومن بين هذه الأثمان الانتخابات الرئاسية إذ يعتقد كثيرون أنه بات مطلوبًا رئيس لمرحلة ما بعد حرب غزة.