بعد مرور شهرين وأربعة أيام على اشتعال جبهة الجنوب بين “حزب الله” وإسرائيل، على صدى صرخات الأطفال وأنين الشيوخ في قطاع غزة الجريح، لم تعد الخسائر محصورة بنتائجها المباشرة في المناطق التي تتعرض لقصف إسرائيلي، بل يشمل التأثير السلبي كل القطاعات الاقتصادية والإنتاجية في لبنان، أي التجارة والصناعة والزراعة والسياحة والخدمات، فخسر لبنان في شهري المناوشات في الجنوب كثيراً من مردود النشاط الاقتصادي الذي سجّله منذ بداية العام 2023. فلولا هذه المناوشات لكان الاقتصاد قادرًا على أن يسجّل هذا العام نموّاً إيجابياً بالمقارنة مع الـ 2022، والذي كان صفراً في المئة، بحسب أرقام البنك الدولي، لكن تداعيات هذه المواجهات “التهمت” كل النمو الذي حقّقه الاقتصاد حتى أيلول الماضي. ويقدّر الخبراء الاقتصاديون ما يخسره لبنان يوميًا بحدود العشرين مليون دولار. وهو رقم كبير بالنسبة إلى بلد يعاني قصورًا في اقتصاده، ويكاد يصل أبناؤه إلى ما دون خطّ الفقر.
Advertisement
فإذا كانت كلفة المناوشات حتى الآن ما يقارب المليار دولار فكم ستكون عليه هذه الكلفة في حال تدّرج الوضع الميداني من مناوشات بدأت تتوسّع لتصل إلى حرب شاملة، وهذا ما يخشاه اللبنانيون، الذين يسعون إلى أن ينأ لبنان بنفسه عن حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، من دون أن يعني ذلك عدم التضامن مع أهل غزة في نكبتهم ومصابهم الجلل، ولكن لهذا التضامن وجوهًا كثيرة، خصوصًا أن المناوشات على طول الخط الأزرق لم تمنع الإسرائيليين من استمرار حربهم على غزة، ولم تخفّف الضغط على القطاع، بل تقتصر مفاعيل هذه المناوشات على حدود جبهات المواجهة، مع خشية البعض من أن تتحوّل هذه المناوشات إلى حرب شاملة، مع ما تعنيه هذه الحرب، وما يمكن أن ينتج عنها من خسائر بشرية ومادية. وقد يكون ما يحصل في غزة مؤشرًا لما هو مهيّأ للبنان في حال لم تنجح المساعي الديبلوماسية، والهادفة إلى تبريد الجبهتين الجنوبية والشمالية تمهيدًا للبحث عن صيغة معينة لتسوية تُطبخ في “المطابخ” الدولية، بالتنسيق والتشاور مع طهران، التي يُقال إنها غير مغيّبة عن الاتصالات القائمة على أكثر من خطّ، وذلك لأن الساعين إلى تجنيب لبنان انزلاقه إلى حرب لا هوادة فيها يعرفون مدى تأثير ايران على “حزب الله” بعدما بات طرفًا أساسيًا في الصراع القائم في المنطقة، وبالتالي لا يمكن إلاّ أن يكون مشاركًا في أي تسوية يمكن التوصّل إليها في مراحل لاحقة بعد أن ينجلي غبار الحرب الدائرة في غزة، وهي حرب طويلة وفق ما يجمع عليه الخبراء العسكريون.
فإذا كانت كلفة مناوشات الشهرين بلغت مليارًا من الدولارات، التي أصبحت شحيحة في الأسواق، فكم ستكون عليه كلفة الحرب الواسعة والشاملة؟
سؤال يُسأل. وهو بات على كل شفة ولسان في لبنان وفي غير لبنان. لكن الإجابة عنه تبقى في أدراج، الذين يتحكّمون بقرار التوسعة. فإذا اقتضت ظروف الحرب في غزة أن تُفتح “أبواب جهنم” في الجنوب، ومنه إلى كل لبنان، تتخذ المواجهة أشكالًا جديدة. وهذا ما تسعى إليه إسرائيل المربكة “غزّاويًا”، وهي تحاول بكل الوسائل الخروج من حفرة حفرتها لغيرها فوقعت فيها، وهي لا تعرف بالتالي كيف السبيل للخروج منها.
ويعتقد أركان الحرب في تل أبيب أن أفضل السبل لهذا “الخروج” هو اللجوء إلى فتح جبهة جديدة مع لبنان انطلاقًا من جنوبه. وهذا ما يفسّر توسيع دائرة القصف ليطال مناطق كانت تُعتبر حتى الأمس القريب خارج “ساحة قواعد الاشتباك”، التي لن تعود صالحة بعد أن تُعتبر منتهية الصلاحية عندما يضطرّ “حزب الله” الردّ بقوة على أي ردّ خارج المألوف، ولو مكرهًا. وهذا الوضع المستجدّ والمرتقب والمحتمل سيقود حتمًا إلى انزلاق لبنان في حرب يحاول الجميع، في الداخل والخارج، أبعاد كأسها عنه.
وفي حال وقعت هذه الحرب المحظورة فإن فاتورتها ستكون مرتفعة جدًّا على لبنان، وعلى غيره بالطبع، ولكن وقع تداعياتها سيكون أشدّ على اللبنانيين أكثر، لأنهم يرزحون في الأساس تحت أثقال لا طائل لهم على حملها. ومن بين هذه الأحمال الثقيلة والضاغطة التي تفوق قدرة اللبنانيين على تحمّلها لوحدهم، يأتي عبء النزوح السوري، وهو في طليعة المشكلات التي ترهق كاهلهم.