قبل شهرين من نهاية العامة 2022 وقبل نهاية ولاية الرئيس السابق العماد ميشال عون، تم توقيع اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل بفعل الجهود الدبلوماسية والتي ترافقت مع تحركات لحزب الله ومُسيراته التي دفعت العدو إلى القبول بموقف لبنان. ومنذ ذلك الحين بدأ الحديث عن أن الترسيم البري سوف يلحق بالترسيم البحري وأن الأوان قد حان، غير أن الأمور في هذا الشأن بقيت في إطار المواقف السياسية إلى النصف الثاني من العام 2023، لكن سرعان ما بدأ الحديث جدياً بشأن هذا الملف بعد ضمّ العدو الإسرائيلي القسم الشمالي من بلدة الغجر إلى الأراضي المحتلة، بالتوازي مع تمسّك حزب الله بالإبقاء على خيمتين نصبهما في مزارع شبعا المحتلة خلف ما يُعرف بـخطّ الانسحاب، وأكد رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت أن الخيمتين موجودتان على أرض لبنانية، والمطلوب من المجتمع الدولي إلزام كيان العدو بتطبيق القرار 1701، والانسحاب من الشطر الشمالي لقرية الغجر، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ونقطة الـB1 التي تقع عند منطقة رأس الناقورة الحدودية. وكانت بعثة لبنان الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك تقدمت بشكوى إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، حول تكريس الجانب الإسرائيلي احتلاله الكامل، واستكمال ضمّ الجزء الشمالي اللبناني لبلدة الغجر الممتدّ على خراج بلدة الماري، ما يشكّل خرقاً فاضحاً وخطيراً، يُضاف إلى الخروقات الإسرائيلية اليومية والمستمرّة للسيادة اللبنانية وللقرار 1701 (2006)».
بعد كل ذلك سرع الحراك الغربي من وتيرة مساعيه من أجل منع التصعيد في الجنوب وضرورة البدء في مفاوضات حول الترسيم البري وحصر النقاش بالنقاط المتنازع عليها، خاصة وأن الوسيط الأميركي في ملف الترسيم آموس هوكشتاين كان زار تل أبيب في شهر تموز الماضي وحضّ الكيان على تجنب التوتر مع لبنان، في حين أن لبنان أكد في ذلك الحين ولا يزال يؤكد أن على إسرائيل الانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر، فضلا عن أن 13 نقطة على الحدود مع فلسطين المحتلة 6 منها تشكّل مادّة خلاف. وهذا يعني وفق المسؤولين اللبنانيين أن الحدود مرسمة وفقاً لاتفاق بوليه- نيوكومب بين بريطانيا وفرنسا ولاتفاقية الهدنة في حين أن الخط الأزرق هو خط انسحاب والنقاط التي تشكل محور خلاف بين لبنان وإسرائيل هي المناطق التي لم تنسحب منها إسرائيل. أما هوكشتاين فأكد من بيروت خلال زيارته التي بحثث في المرحلة الثانية من التنقيب عن الغاز في لبنان، أن “بعد أن بدأت أعمال الحفر والاستخراج حان الوقت لمراجعة الإطار الذي وقع نتيجة الترسيم البحري والعمل على الترسيم البري أيضاً، وأنه زار جنوب لبنان ليرى عن قرب الخط الأزرق والمناطق المحيطة لفهم ومعرفة المزيد عما هو مطلوب”، مع تأكيد أوساط دبلوماسية أن ما يهم واشنطن خلق بيئة مستقرة من أجل استخراج الغاز، ولذلك عملت في الشهرين الماضيين في إطار مساعيها على تجنب امتداد الحرب على غزة الى لبنان، علما أن أي خطأ إسرائيلي كبير قد يهدد منصات التنقيب التي تحيد عن الصراع الدائر حتى الساعة.
في ذلك الوقت ظن كثيرون أن الاتفاق حول تثبيت الترسيم البري سوف يبصر النور قبل نهاية العام 2023، مع تقدم مسار التطبيع العربي مع إسرائيل وبالاخص في ما خص التطبيع السعودي، الا أن هذا السيناريو سرعان ما أطاح به العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة بعد عملية “طوفان الاقصى” في 7 من تشرين الأول والتي أسست لواقع جديد ومشهد جديد في المنطقة لما أحدثته من متغيرات على أرض الميدان.
وكما بات معلوما فإن الادارة الاميركية لا تريد التّصعيد بين حزب الله وإسرائيل، وهذا ما قاله هوكشتاين مشيرا الى ان خرق الـ1701 يحصل أيضاً من الجانب الاسرائيليّ وأي نقاش بهذا القرار أو بالحدود البرية يبدأ بعد وقف إطلاق النّار في غزة والجنوب، وأنّ القرار 1701 ليس على النار، وأنّ تعديله غير مطروح حاليا، علما أن فرنسا وبحسب ما تبلغته القيادات السياسية من موفديها العسكريين والسياسيين عملت طيلة الشهرين الماضيين على نقل رسائل للبنان حول الاستعداد الإسرائيلي لتصعيد العمليات العسكرية، في حال استمرت المواجهات في الجنوب، مع نصائح حول ضرورة التهدئة وتطبيق القرار 1701. فوزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا شدت الاسبوع الماضي خلال زيارتها بيروت ولقائها الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي على ضرورة “خفض التصعيد على الحدود الجنوبية من الجهتين والتوصل إلى آلية لايجاد حل يكون مقدمة لترسيخ الاستقرار الدائم في الجنوب”، في حين أن رئيس الحكومة كان واضحاً بتشديده على “أولوية وقف العدوان الاسرائيلي على لبنان، وتطبيق القرار 1701 نصّاً وروحاً شرط التزام اسرائيل بمندرجاته”.
ما تريده اسرائيل يتمثل في سحب فرقة الرضوان من المنطقة الحدودية الى شمال الليطاني، مع انتشار الجيش
في المنطقة الحدودية بمواكبة فرنسية وأميركية، بالتزامن مع الضغط من أجل تطبيق القرار 1701.
لكن ما هو معلوم أن تطبيق القرار 1701 يحتاج الى مقومات سياسية ولوجستية وعسكرية غير متوفرة حتى الساعة، في حين أن تعديله أيضا مستحيل في مجلس الامن الدولي نظراً الى أن موازين القوى لم تعد كما كانت عليه في العام 2006 فضلا عن حق الفيتو الذي ستلجأ اليه الصين وروسيا.
وهنا يعتبر مصدر سياسي مقرب من حزب الله انه لا يمكن لأحد الحديث عن تنفيذ لبنان للقرار 1701 قبل أن يتم إجبار اسرائيل على تطبيق بنود الاتفاق، فهي لا تزال تحتل بعض المناطق سواء جنوب الليطاني أو شماله، في حين أن تحرير الأرض مكرس بالنص بالاستناد الى تفاهم نيسان، فضلاً عن أن العدو يواصل خرق الأجواء اللبنانية منذ نحو 7 سنوات عندما يقوم بقصف بعض المناطق في سوريا فضلا عن مطاراتها. اما في ما خص مزارع شبعا، فلا تزال محتلة في حين انه كان من المفترض أن تنسحب إسرائيل منها استناداً إما الى القرار 1701 او القرارات الدولية المتصلة بالجولان، وكان على القوات الدولية أيضاً ان تقدم تقارير دورية حول هذه المزارع ربطا بهذا القرار.
ولذلك فإن الحديث عن منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني تكون خالية من أيّ مسلّحين ومعدات حربية وأسلحة عدا تلك التابعة للقوات المسلحة اللبنانية وقوات يونيفيل وفق ما جاء في بنود القرار الدولي، دونه عقبات كثيرة أبرزها أن الجيش اللبناني لا يستطيع نشر 15000 جندي في المنطقة وكذلك اليونيفيل التي لا يتجاوز عديدها ال 9000 جندي. ليبقى طرح إخراج حزب الله من المنطقة شبه مستحيل، وهذا ما أكده في الساعات الماضية رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله هاشم صفي الدين بقوله إن”وجود المقاومة على الحدود اليوم ضروري للجنوب من الناقورة إلى شبعا”.
ويقول الخبير العسكري عمر معربوني إن لبنان اليوم في مرحلة صراع، وطرح إعادة ترسيم الحدود البرية من قبل واشنطن بشكل أساسي يحمل مظلومية للبنان الذي لن يقبل به سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى المقاوم.فعوامل الصراع اليوم أصبحت مختلفة بشكل كبير، ولذلك يمكن القول إن الأمور المتصلة بالقرار الدولي 1701 أو تثبيت الحدود البرية تتطلب انتظارا لجلاء غبار المعركة الحاصلة في قطاع غزة وانعكاسها على النتائج في البعدين السياسي والعسكري. والأكيد، بحسب معربوني، أن لبنان ووفق تصريحات مسؤوليه الرسميين وقيادة حزب الله لن يرضح للمطالب الغربية ومنها الأميركية والفرنسية. ومسار العام 2024 في لبنان سيكون رهن نتائج الصراع الحالي، فموازين القوى تتغير وتتبدل ليس فقط في غزة ولبنان، إنما أيضا على مستوى العالم من خلال التحالفات الجديدة التي برزت في العام 2023 وسوف تترجم على أرض الواقع بعد نشوء اقطاب عديدة تنذر بانتهاء معادلة القطب الواحد.
ولذلك فإن لبنان، وانطلاقا من العوامل المحلية والاقليمية والدولية، سيكون جزءا من خارطة الصراع بتجلياتها الجديدة ولن يكون خارجها.
وعليه، فإن مسار تثبيت الحدود البريةوتطبيق القرار 1701، سيكون محل متابعة حديثة من هوكشتاين مع لبنان وإسرائيل، علما أن لا موعد محدد بعد لزيارة الوسيط الأميركي بيروت، فمواقف الأوساط الدبلوماسية تتقاطع مع أجواء لبنانية مفادها أن هذين الملفين مؤجلان إلى ما بعد انتهاء حرب غزة وانتخاب رئيس للجمهورية.