كتب جورج شاهين في” الجمهورية”:لم يكن نشر صحيفة اميركية قبل أيام معلومات عن تدخّل الرئيس الاميركي جو بايدن لمنع توسّع الحرب في اتجاه لبنان مفاجئاً للمسؤولين اللبنانيين. فالمتابعون يدركون الدور الذي لعبه في منع ردّ فعل اسرائيلي في الجنوب، يوازي ما يجري في غزة منذ صباح 11 تشرين الأول الماضي. وهو أمر تمّ ربطه بالضمانات الاميركية التي واكبت الاتفاق على “الترسيم البحري” والتعهدات التي قطعها طرفا الاتفاق بقبولهما المرجعية الاميركية عند وقوع اي خلاف من دون مرجعية دولية أخرى. وعليه، ما هي المؤشرات الدالة الى هذه المعادلة؟
على قاعدة “كل شي فرنجي يعني برنجي” تداول اللبنانيون بارتياح ملحوظ ما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، التي قالت “إنّ الرئيس الأميركي جو بايدن حضّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على وقف ضربة استباقية ضدّ “حزب الله”، محذّراً من مغبة إثارة حرب إقليمية واسعة”. وأنّه هو من حضّه “على وقف الضربة الاستباقية ضدّ قوات “حزب الله” في لبنان بعد أيام من هجوم مقاتلي “حماس” في 7 تشرين الأول على جنوب إسرائيل”. وذلك بعدما طمأن الجانب الاسرائيلي الى عدم صحة “معلوماتها الاستخبارية من أنّ مقاتلي “حزب الله” كانوا يستعدون لعبور الحدود كجزء من هجوم متعدد الجوانب”. مؤكّداً أنّ الولايات المتحدة اعتبرت هذه المعلومات “غير موثوقة”.
وما زاد من صدقية التقرير لدى العارفين بكثير من أسرار تلك المرحلة المتداولة على نطاق ضيّق جداً، أنّ “الطائرات الحربية الإسرائيلية كانت في الجو في انتظار الأوامر، عندما تحدث بايدن مع نتنياهو في 11 تشرين الأول، وطلب منه التراجع والتفكير في عواقب مثل هذا الإجراء”. ولما نسب هذا التقرير هذه المعطيات الى “أشخاص مطلعين على المكالمة” فقد تلاقت في توقيتها ومضمونها مع ما وصل الى بيروت في تلك اللحظة من معلومات دقيقة ومضمونة، رسمت خريطة طريق أمام المسؤولين الكبار لنيل ضمانات موازية من “حزب الله” سعى اليها كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في موازاة إطلاق ورشة حكومية توصلاً الى “خطة مواجهة” لا بدّ منها ترقباً من احتمال ان تكون هذه المعلومات وما حملته من ضمانات مجرد مواقف اميركية ظرفية ومؤقتة، قياساً على حجم التشكيك بالنيات الاسرائيلية التي لا يمكن الاطمئنان إليها.
كان ذلك قبل انّ تعمّم السفيرة الاميركية دوروثي شيا في جولتها الواسعة على المسؤولين في عين التينة والسرايا الحكومي ووزارة الخارجية، بعد ثلاثة أيام على التدخّل الاميركي الصارم الذي لم يكن يخضع لأي نقاش، رسالة واضحة وصريحة كلّفها ايّاها وزير الخارجية الاميركية أنتوني بلينكن عند تنفيذه للتعليمات التي أعطاها الرئيس جو بايدن الى أفراد حكومته لطمأنة اللبنانيين من جهة والأطراف الإقليميين الذين كانوا ما زالوا تحت الصدمة التي أحدثتها عملية “طوفان الأقصى” في الداخل الاسرائيلي من جهة أخرى، بغية إضفاء جو من التهدئة لا بدّ منه لتقدير الموقف وفهم ما جرى وسبل مواجهته في ظل إرباك اسرائيلي غير مسبوق.
وعليه، يدرك العارفون الذين واكبوا تلك المرحلة، انّ التوجّه الاميركي، وإن كان تصعيدياً في لهجته الديبلوماسية والسياسية العلنية بما ترجمته التعليمات بنقل “يو اس اس جيرالد فورد” إحدى اكبر حاملات الطائرات الى البحر المتوسط، ومعها احدى الغواصات النووية، وتعزيز قواعدها في الخليج العربي بالطائرات الاستراتيجية، فهو في سرّه كان وما زال يتهيب انفجاراً اقليمياً يقود المنطقة الى حرب شاملة لا يعرف مداها سلفاً. وخصوصاً إن صحّت التوقعات بانخراط “قوى الممانعة” فيها من لبنان الى سوريا والعراق وربما جبهة الجولان المتفلتة من النظام السوري وصولاً الى اليمن. وعليه فإنّ تفهّم هذه المعادلة الدقيقة التي رسمها الموقف الاميركي، طمأن اللبنانيين الى حدّ ما، وبدأ العمل لنيل موقف مماثل من “حزب الله”، وهو ما حققه رئيس مجلس النواب نبيه بري ومعه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فكانت المعادلة التي أطلقها “حزب الله” بإعلانه انّ ما يجري لا يتعدّى كونه “جبهة مساندة” للمقاومة الفلسطينية في غزة. وعندها رفع لبنان الرسمي مسؤوليته عن أي تطور محتمل، بتحميله اسرائيل مسؤولية قرار الحرب والسلم وصولاً الى مدى وحجم الالتزام بالقرار 1701، وما قال به من ترتيبات خرقتها تل أبيب منذ اليوم الأول للتوصل إليه.
بهذه الطريقة اطمأن لبنان الى حدّ ما إلى انّ ما يجري في الجنوب مضبوط، وانّ الحرب الشاملة مستبعدة، وأنّ اي طرف لن يخرج عن “قواعد الاشتباك” المعلن عنها حتى اليوم، ووضع الموقف الاميركي ضمن حجمه المقبول. فهو فصل نهائياً بين الدعم المعطى لاسرائيل، طالما انّ الحرب تجري على اراضيها والاراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما اكّده بلينكن في خطابه أمام مجموعة “السبعة الكبار” في اليابان، عندما قال لا للترانسفير الفلسطيني من غزة ولا لبقاء إسرائيل على أراضٍ فلسطينية في غزة، شرط ان تكون خالية من حركة “حماس”.
وعليه، بدأت التفسيرات للموقف الاميركي ولم تنته بعد. وكشفت مصادر ديبلوماسية انّ هذا الموقف يمكن اعتباره ترجمة فعلية للضمانات الاميركية التي واكبت التفاهم على “الترسيم البحري” عندما ضمنت منع أي حرب شاملة بين لبنان واسرائيل، وقد آن اوان تنفيذه. وهو ما ترجمه بايدن وفق هذه النظرية بتكليف معدّ التفاهم وصانعه عاموس هوكشتاين، مسؤولية مراقبة الوضع على الحدود وقد كُلّف مهمّات عدة حتى اليوم، وضعت ما يجري تحت سقف هذه التعهدات التي قدّمها بايدن وقادت الى الاطمئنان الى ما بعد الترسيم البحري، بمعزل عن كل ما جرى لاحقاً لجهة وقف البحث عن الثروة النفطية في “البلوك” الرقم 9، على انّها عملية ستُستأنف فور ان تنتهي الحرب في غزة.
على هذه الخلفيات لا تنكر المراجع العليمة ما تخضع له هذه النظرية من انتقادات، من قائل انّ تعهدات بايدن وهوكشتاين الشفوية لا يمكن اعتبارها ضمانات ثابتة. فتعهدات هوكشتاين بتأمين الغاز المصري والكهرباء الأردنية لرفد لبنان بالطاقة الكهربائية تحولت مجرد “كذبة كبيرة” طالما انّها لم تر النور بعد، ولم تكتمل فصولها، فيما اعتبر آخرون انّ مثل هذه الملاحظات قد تكون صحيحة، ولكن ما يجري اليوم وتجنيب الادارة الاميركية الحرب على لبنان تعوّض على مثل هذه النظرية السلبية وتسبق بنتائجها أي تشكيك بها.
واستكمالاً لهذه النظرية، ثمة من يعترف أنّ المواجهة القائمة على الحدود الجنوبية ما زالت مضبوطة ولن تخرج عن اطارها القائم حالياً، وسط التزام واضح من الجانبين الاسرائيلي و”حزب الله” بمعزل عمّا يجري في سوريا والعراق واليمن، فهي مواجهة من نوع آخر لا يتحمّل لبنان أي مسؤولية في شأنها. وأنّ التشكيك الاميركي المستجد بالأدوار الايرانية في هذه الدول الثلاث، بعد تبرئتها من دم عملية “طوفان الأقصى”، اعطى هذه الأحداث شبه اليومية نكهة وتفسيرات أخرى، ترجمها الردّ الاسرائيلي في سوريا وما ادّى اليه قبل ايام باغتيال قائد الحرس الثوري الايراني فيها، كما بالنسبة الى العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الاميركية مباشرة في الشرق السوري والعراق بنحو تخطّى في توقيته ومضمونه ما يجري على الساحة الجنوبية، وبطريقة ابعدت الساحة اللبنانية عن مثل هذه العمليات ونتائجها المحتملة، الى ان تأتي التطورات بأي جديد في قطاع غزة، لتنعكس مفاعيله في ساعات قليلة على جبهة لبنان.